عادي

طائفة الشعراء العشاق

22:39 مساء
قراءة 5 دقائق

القاهرة: «الخليج»

يخطئ من يظن أن الحب العذري ظاهرة، انفردت بها البادية العربية في العصر الأموي وحده، ذلك أن من يتتبع الشعر العربي منذ أقدم عصوره، يلاحظ أن هذا اللون من الحب قديم قِدَمَ هذا الشعر، وأن جذور هذا الحب تمتد إلى العصر الجاهلي، حيث عرف المجتمع الجاهلي طائفة من الشعراء العشاق، أطلق عليهم الرواة اسم «المتيمين»، ارتبطت أشعار كل واحد منهم بصاحبة له، عرف بها وعاش لها، ومات من أجلها، ووهب حياته وفنه لحبها المستحيل.

بتلك الرؤية الواضحة، يستهل الدكتور يوسف خليف، تقديم كتابه «الحب المثالي عند العرب»، مؤكداً أن حياة هؤلاء المتيمين وشعرهم، لم تكن سوى صورة مماثلة أشد المماثلة لحياة العذريين الأمويين وشعرهم، بحيث يستحيل القول إن هذا الحب لم يظهر إلا في أيام بني أمية، فالحياة الأموية لم تكن هي التي خلقت هذا الحب من عدم، أو أوجدته لأول مرة في تاريخ العرب، ولكنها البادية العربية منذ أقدم عصورها هي التي أوجدته، قبل أن تعمل الحياة الأموية على بعثه من جديد، وتنفخ فيه من روحها، ليعود خلقاً جديداً كما خلقته البادية القديمة أول مرة، وهو ما يعني أن الحب العذري ليس حباً أموياً خالصاً، وإنما هو حب البادية العربية في جميع عصورها على مر التاريخ.

وهم مستقر

ربما كانت تلك هي الفكرة الأساسية التي سعى من خلالها خليف، وهو المتخصص في تاريخ العرب، سواء ما يتعلق منه بصدر الإسلام وما قبله أيضاً، عبر أكثر من عشرين كتاباً، إلى إزالة ما يصفه بالوهم المستقر في أذهان كثير من الباحثين في الأدب العربي، وتصحيح العديد من الأخطاء الشائعة في كثير من الأبحاث الأدبية التي ظهرت خلال الفترة الماضية، والتي تشير إلى الحب العذري، باعتباره ظاهرة أموية خالصة، منبتة الصلة مما قبلها، فالمتتبع للشعر العربي، حسبما يقول الدكتور خليف، منذ أقدم عصوره، يلاحظ أن هذا اللون من الحب قديم قِدَمَ هذا الشعر، بل إن البادية العربية منذ أقدم عصورها هي التي خلقته وأوجدته، على نحو ما يتجلى في العديد من صور الحب التي سجلتها الذاكرة العربية، ومن بينها الحب الحسي، الذي يُفتن فيه الرجل بالمرأة من حيث هي أنثى، تحقق له المتعة واللهو وإرضاء الحواس، وفي مثل هذا النوع، لا يقف حب الرجل عند واحدة، يهب لها قلبه وحبه وإخلاصه ووفاءه، على العكس تماماً من الحب الروحي الذي يتعلق فيه العاشق بمحبوبة واحدة، يرى فيها مثله الأعلى الذي يحقق له متعة الروح، ورضا النفس، واستقرار العاطفة.

عرف العرب حسبما يذهب الدكتور خليف في كتابه، هاتين الصورتين من صور الحب منذ أقدم عصورهم، قبل أن تتميز صورة الحب الروحي في منتصف القرن الأول للهجرة، بعد أن استقام الأمر لبني أمية، بسمات معينة، واتخذت لها طابعاً خاصاً، وهو ما يطلق عليه «الحب العُذْري»، نسبة لقبيلة بني عذرة، التي يؤكد خليف، أنها لم تنفرد دون غيرها من القبائل العربية بهذا اللون من الحب، الذي ظهر أيضاً في قبائل أخرى، مثل قبيلة بني عامر التي شهدت ظهور مجنون ليلى قيس بن الملوح، وقبيلة بني كنانة ممثلة في قيس بن ذريح صاحب لبنى. ويرجح الدكتور خليف في كتابه رجوع نسبة هذا الحب إلى قبيلة عذرة دون غيرها من القبائل العربية، إلى كونها القبيلة الأشهر التي مثلت هذه الظاهرة الاجتماعية أقوى تمثيل، لكثرة من عرف من عشاقها الذين رأى فيهم الرواة المُثُل الكاملة لهذا الحب، عند جميل بثينة الذي يعد بحق أروع مثل له، وأدق نموذج عرفته البادية منه، وعروة بن حزام الذي كان عذرياً أيضاً وينتمي إلى تلك القبيلة، التي يستعرض خليف في كتابه، عدداً من أشهر قصص الحب العذري التي ارتبطت تاريخياً بها، ومن أشهرها قصة عروة وعفراء، ويقول خليف: أحب عروة بن حزام ابنة عمه عفراء، وهما صبيان، وكان عروة يعيش في بيت أبيها بعد وفاة أبيه، وربط الحب بين القلبين الصغيرين منذ طفولتهما المبكرة، وشب مع شبابهما، وتمنى عروة أن يتوج الزواج قصة حبهما الطاهر، فأرسل إلى عمه يخطب إليه عفراء، لكن المال وقف عقبة في طريق العاشقين، فقد غالت أسرة عفراء في المهر، وعجز عروة عن القيام به، لكن عروة ألحَّ على عمه، وصارحه بحب عفراء، فراح يماطله ويمنيه الوعود، ثم طلب إليه أن يضرب في الأرض لعل الحياة تُقبل عليه، فيعود بمهر عفراء، وينطلق عروة بحثاً عن المال، ثم يعود بعد حين وقد تيسر له ما كان يسعى إليه، والأمل يداعب نفسه، ويرسم له مستقبلاً سعيداً يجمع بينه وبين عفراء، وفي أرض الوطن يخبره عمه أن عفراء قد ماتت، ويريه قبراً جديداً ويقول له إنه قبرها، فتتحطم آمال عروة، وينهار كل ما كان يبنيه لأيامه المقبلة، وترتبط حياته بهذا القبر يبثه آلامه، ويندب حظه، ويبكي حبه الضائع ومأساته الحزينة، ثم تكون المفاجأة التي لم يكن يتوقعها، لقد ترامت إليه أنباء بأن عفراء لم تمت، ولكنها تزوجت ورحل بها زوجها إلى الشام حيث يقيم، فتثور ثائرة عروة، ويصب جام غضبه على عمه الذي خدعه مرتين: حينما مناه عفراء، ودفع به إلى آفاق الأرض البعيدة خلف مهرها، ثم خدعه حين لفق له قصة موتها، وتركه فريسة أحزانه ودموعه فمضى يهجوه في أشعاره، قبل أن يقرر الانطلاق صوب الشام. ينزل عروة ضيفاً على زوج عفراء، والزوج لا يعرفه بطبيعة الحال، ثم مازال يحتال حتى التقى بها، فيتذكران ماضيهما السعيد فوق أرض الوطن البعيدة وما فعلت بهما الأيام، وتكون شكوى، وتكون دموع، ويصمم عروة على العودة إلى وطنه حرصاً على سمعة عفراء وكرامتها، واحتراماً لزوجها الذي أحسن وفادته وأكرم مثواه، وفي أرض عذرة التي شهدت رمالها السطور الأولى من قصة حبه، تكون الأدواء، والأسقام في استقباله، فتسوء حال عروة، ويشتد عليه الضنى، ويستبد به الهزال، ويأخذه مرض السل حتى لا يبقى منه شيئاً، ويعجز الطب عن علاجه، فلا يجد إلا شِعره يفزع إليه ليبثه آلامه وأحزانه، ويصور فيه ما يلح على نفسه من أشواق وحنين، ثم تكون نهاية المأساة، فيسدل الموت على العاشقين ستار ختام، فيموت عروة، ويبلغ النبأ عفراء، فيشتد جزعها عليه، وتذوب نفسها حسرات وراءه، وتظل تندبه وتبكيه حتى يطويها الموت بعده بقليل.

أسطورة

يجمع رواة تلك القصة المثيرة في الحب العذري، بين عروة وعفراء حتى بعد الموت، فتقول الرواية إن عفراء دفنت إلى جانب قبر عروة، ومن القبرين تنبت شجرتان غريبتان لم ير الناس مثلهما من قبل، تظلان تنموان حتى تلتف إحداهما على الأخرى، تحقيقاً لأمل قديم حالت الحياة دون تحقيقه، وأبى الموت إلا أن يحققه، ويقول الدكتور خليف إن هذه القصة التي تعد من أقدم القصص التي وصلت إلينا، من قصص الحب العذري في العصر الأموي، تمثل بحق المعالم الأساسية، والملامح المميزة لما يمكن أن يطلق عليه، الحب المثالي عند العرب، والذي يمكن إيجازه في أنه ذلك اللون من الحب الروحي الذي يأخذ شكل المأساة الحزينة، التي دائماً ما تكون بداياتها أمل، ونهاياتها يأس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/y7njw5w9

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"