عادي

حب الفلاسفة.. طفل عابث يلهو بالقلب

22:47 مساء
قراءة 6 دقائق
حب الفلاسفة.. طفل عابث يلهو بالقلب

الشارقة: علاء الدين محمود

كثيراً ما وجد موضوع الحياة الخاصة عند الفلاسفة اهتماماً كبيراً من قبل الناس في كل مكان، وذلك نسبة لما يرون من أن حياتهم تتسم بالغموض والغرابة والميل نحو العزلة في أبراج عالية ممنوع الاقتراب منها، ولعل أكثر الأشياء التي لقيت اهتماماً هي العلاقات العاطفية عند كبار المفكرين، وكيف يتعاملون مع مشاعر الحب، وربما كان هذا الاهتمام ناتجاً عن البحث عن إجابات لتلك العواطف التي تجتاح الإنسان العادي ولا يجد لها تفسيراً، فيلتمسه عند هؤلاء الأشخاص الذين اشتهروا بتغليب العقل والمنطق، إلى درجة أن الكثيرين يتعاملون مع الفلاسفة، باعتبارهم «كائنات ذهنية»، لا تقيم وزناً للعواطف.

هناك العديد من الكتابات والمؤلفات التي عالجت هذا الموضوع، واستطاعت أن تقتحم أسوار عالم الفلاسفة العالية، لتخرج بالعديد من حكايات العشق، وكيف عاش هؤلاء الأشخاص الذين نذروا أنفسهم للتأمل والفكر ورصد الظواهر وإنتاج المفاهيم والمقولات، وقصص الحب، وأثر ذلك الشعور في تصوراتهم، وكيف نظروا إلى الحب باعتباره مجالاً شهد لقاء الشعور بالعقل، ولا بد أن ذلك الأمر أنتج عندهم الكثير من الجدل، وأثار العديد من الأسئلة، حيث إن الفلاسفة يميلون بحكم تكوينهم المعرفي إلى عقلنة كل شيء وإخضاعه للمنطق، بينما يبدو الحب عصياً على ذلك، ورغم أن الفلاسفة قد أشرعوا رماح أفكارهم صوب كل فكرة في الكون، فإنهم توقفوا ملياً أمام الحب، ففي تعاملهم معه ربما قدم كثير منهم آراء غريبة، تقترب من الجنون والبؤس.

مشاهد

نعم، وجدت قصص الحب صدى خاصاً، وكانت لبعض المؤلفات التي تناولت طرق عيش الفلاسفة وأسلوبهم في الحياة صدى مختلفاً، مثل كتاب: «الفلاسفة والحب»، لماري لومونييه وأود لاسولان، وكتاب «فلاسفة عظماء فشلوا في الحب»، لأندرو شافر، و«عشق سري» لريتانا أرميني، وحتى المكتبة العربية لم تخلُ من أدبيات تنقب عن حكايات العشق، وما وراء تلك القصص التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، مثل كتاب «سؤال الحب من تولستوي إلى أينشتاين»، لعلي حسين، وكلها ترصد الطقوس والحكايات الغريبة مع الحب، ولحظات الجنون بل والموت، وتحتشد هذه المؤلفات وغيرها بالمواقف المؤثرة والغريبة، وتكتظ بالصور المشحونة بالعاطفة، والمشاهد الملتهبة، فهناك فرجينيا وولف، المفكرة والكاتبة الكبيرة، ومشهد ذهابها نحو النهر وجيوب معطفها مملوءة بالحجارة، بعد أن عزمت على وضع حد لحياتها، ولم تترك سوى رسالة إلى زوجها الكاتب والمصلح الاجتماعي ليونارد وولف، جاء فيها: «ما أريد قوله هو أنني مدينة لك بكل السعادة في حياتي»، كلمات تشرح قصة حب عميقة جمعتها مع زوجها، لكن ذلك العشق لم يمنعها من الانتحار، لأنها صارت على مقربة من الجنون ولا تريد أن تورط الرجل الذي أحبته في مأساة جنونها، وثمة مشهد آخر شديد الأثر، فلينين صاحب الدفاتر الفلسفية، والقائد الثوري، يترك في لحظة حزن شديد، أمر الثورة ويتسلل ليقود أفواج المعزين من أجل أن يواري جثمان محبوبته الثرى، تلك التي جمعته بها قصة عشق كانت طي الكتمان لم تخرج إلى العلانية إلا في لحظة الوداع تلك، وهنالك الكثير من مثل تلك المشاهد، فحياة الحب عند هؤلاء الفلاسفة لم تكن كلها تسير وفق قصص الغرام المعروفة، بل أخذت طابع تفكيرهم، فكانت مملوءة ب«الجدل»، و«التناقضات»، ولم تخلُ من «الأسئلة».

قصص

ولئن عاش بعض الفلاسفة قصص الحب وخاضوا غمار تجربته، فكيف تعاملوا مع ذلك الشعور، وهل هنالك فلسفة خاصة بالعشق والهوى؟ ولعل من أبرز الذين تصدوا لمثل هذه الأسئلة هو الفيلسوف أرسطو، فقد تناول الحب في العديد من كتاباته، لم يفرد له مؤلفاً خاصاً، لكنه دخل كعنصر أساسي في تلك الكتابات، فقد تناول ذلك الشعور الذي يبدو غامضاً، وينشأ في قلب المرء ويكون له أثره في حياة البشر، وهنالك أفلاطون فالحب عنده يهدف إلى السعادة وهو محض روح، وخصوبة روحية، وضوء ساطع، وربما هذا الموقف الميتافيزيقي من الحب هو ما قاد إلى وصف الحب على طريقة أفلاطون بالحب الأفلاطوني، ولقد ألهم هذا الحب الأفلاطوني أوروبا ردحاً من الزمان، أما الفيلسوف شوبنهاور فقد تناول الحب بطريقة تبدو سلبية إلى حد كبير، فقد عُرف بكونه شديد العداء للمرأة، وهو موقف لا يختلف كثيراً عن فلسفته التي عرفت بالتشاؤم، وله في ذلك الأمر الكثير من المقولات التي أصبحت موضوع دراسة الباحثين والمفكرين من أجل الإحاطة بالأسباب التي أدت إلى مثل هذا الموقف العدواني، فهو يصب لعنات كثيرة على المرأة التي يجد فيها مستودع التعاسة والشقاء فهي كائن منافق، وفي المقابل يبرز الرجل عند شبنهاور كضحية لهذه المرأة، فهو مسكين ومجنون.

ولئن كان شوبنهاور قد وجد أن لا فائدة من الحب والعلاقات العاطفية، فإن الفيلسوف سورين كيركجارد، اتخذ موقفاً نقيضاً تماماً، عندما تناول الحب من منظور فلسفي، ووصفه بأنه أسمى مراحل التجربة الذاتية، وعلى هذا النحو سار الفيلسوف المعاصر آلان باديو، الذي عرف الحب بأنه «نتاج الحقيقة»، وخبرة ترتكز إلى تجربة اثنين، ومن الذين أفردوا مؤلفاً كاملاً عن الحب وأثره، الفيلسوف وعالم النفس الشهير إريك فروم، في مؤلفه «الحب أصل الحياة»، فالحب عنده حل لا مشكلة، تفسير لا أحجية، وإذا كان الحب هو الجواب العاقل والمقنع الوحيد على مشكلة الوجود الإنساني. والحديث عن الهوى هو الحديث عن الحاجة القصوى والحقيقة في كل إنسان، وإذا كانت هذه الحاجة قد تشوشت، فهذا لا يعني أنها ليست موجودة، أما الفيلسوف برتراند رسل، فقد كان له هو الآخر موقف إيجابي من العشق، فهو يرى أن «الخوف من الحب والارتباط هو خوف من الحياة، وأولئك الذين يخشون الحياة هم بالفعل ميتون».

كتابات ناعمة

وكان التجلي الأكثر إشراقاً في الكتابة عن الحب هو الذي جاء مع الفيلسوفتين حنة أرندت وسيمون دي بوفوار، فقد كان للأخيرة إسهام كبير في الكتابة عن الحب كشعور ومفهوم ومسألة فلسفية، فقد أكدت فلسفتها في العشق أهمية الروابط الإنسانية الحقيقية، والحاجة إلى التغلب على الاغتراب والأنانية، وكانت تؤمن بأن الحب هو قوة تسمح للأفراد بالتحرر من ذاتيتهم وفهم الآخرين والتواصل معهم حقاً، وكان الحب الحقيقي بحسب دي بوفوار هو الذي يقوم على الاحترام المتبادل والتفاهم، والذي يمكن أن يساعد على التغلب على الفوارق الاجتماعية، وكانت كتابات حنة أرندت هي الأكثر اقتراباً من التناول الفكري والفلسفي تجاه الحب، فقد ظلت توضح في العديد من مؤلفاتها أهمية الشعور بالحب في حياة الإنسان، بل اتجهت نحو تحليل الكثير من الظواهر المرتبطة بحالة العشق، وتقول: «إن الجسارة والشجاعة هي ما يسعى إليه الحب. فالحب كرغبة يحدده هدفه وغرضه، وهذا الهدف متحررٌ من الخوف»، وقد كانت الكتابة عن موضوع الحب بواسطة النساء لحظة مهمة وفارقة، ولئن كان الكثير من الفلاسفة قد كتبوا عن الحب نتاج تجاربهم الخاصة، فقد اتسمت الكتابات النسائية بالأفق المفتوح والعمق في تناول المشاعر الإنسانية.

تعج حكايات الفلاسفة بالعديد من قصص الحب الملهمة، والتي كانت نفسها نتاج تجارب صعبة في الحياة، ففيهم من وجد في الحب الخلاص والراحة، وهناك من فشل في الحب، فالفيلسوف نيتشه على سبيل المثال، كان قد مر بكثير من الظروف الصعبة، واقترب من الجنون، خاصة أثناء علاقته مع محبوبته السابقة سالومي، لكنه وجد الراحة أخيراً في علاقة استثنائية مع فتاة تدعى كارمن كانت بمثابة ملهمة له، وأراد أن يحقق معها مفهومه للحب، وهو عنده ليس أكثر من «طفل بوهيمي»، ولدى هذا الفيلسوف العديد من المقولات عن الحب، وهي متناقضة وبحسب الحالة التي يمر بها، ولكن من أشهر مقولاته الإيجابية تجاه العشق تلك التي يقول فيها: «فالحب قوة مجدّدة لكل أنواع الإبداع».

رؤية مشتركة

غير أن من أشهر العلاقات العاطفية في حياة الفلاسفة تلك التي جمعت بين جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، وهي قصة حب مشوبة بكثير من التقلبات في المواقف، خاصة أن كلاً من سارتر ودي بوفوار يشتغلان في مجال الفلسفة، ولكل واحد منهما موقف خاص من الحب، وحفلت حياتهما العاطفية بالكثير من الأوقات المشرقة والسعيدة، ولئن نجحا في حياة العشق، وذلك الحب الذي جمع بينهما هو الذي قاد كل من سارتر وسيمون إلى الإبداع والانسجام الفكري وتشاطُر الرؤية إلى العالم.

وكذلك من أبرز علاقات الحب الملتهبة، تلك التي جعت بين الفيلسوفين مارتن هايدجر وحنة أرندت، وكانت علاقة مفعمة ومحتشدة بلحظات الإلهام المتبادل والتأثير الفكري، فقد رأى هايدجر أن أرندت كانت تبث ما أطلق عليه الفكر العاطفي في كتاباته، وهو الحب الذي مثل لكليهما لحظة جملت حياتهما، فهايدجر يرى أن لا شيء يقود إلى قلب العالم أكثر من الحب، وقد توّجت تلك العلاقة بالزواج بعد عشق قوي كان هايدجر يطلق على أرندت لقب «حورية الغابة»، بينما كانت تطلق عليه اسم «قرصان البحر»، وهي قصة حب شهدت الكثير من التقلبات، لكن الحب ظل راسخاً بين الاثنين.

إلهام

أما قصة الحب الملهمة في الأدب والمسرح، تلك التي نشأت بين الفيلسوف سورين كيركجارد ومحبوبته ريجينا، فقد كانت عامرة بالتفاصيل الغريبة والجميلة والحزينة في ذات الوقت، وذلك عندما قرر أن يتركها فكان أن قال لها في وداعية حزينة «إنني أحبك يا عزيزتي كما لم يحب رجل امرأة من قبل ولن يحب من بعد، ولهذا سأتركك مفطور القلب غارقاً في أحزاني»، وتسربت تلك الكلمات المؤثرة إلى الأعمال المسرحية والأدبية، ولم يرتبط كيركجارد بعد فراقه لريجينا بأي فتاة بعدها، وظل حبها شبحاً مخيماً على بقية حياته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/3pm47mu2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"