لا تذكرة للعودة

00:24 صباحا
قراءة دقيقتين

صديق من محبّي السفر وكثرة الترحال، يمكن وصفه بالرحالة، يسّر له تقاعده المريح أن يسافر ساعة يشاء، وهو ممن يهوون استكشاف مناطق غير تلك التي اعتاد السيّاح السفر إليها، ويختار أن يقصد عوالم بكراً، لم تطأها إلا القليل من أقدام غير أهلها، نعني الآتين إليها من خارجها، ليتعرفوا إلى نمط معيشة ساكنيها والبيئة التي فيها يعيشون.
يقول هذا الصديق، إنه لا يشتري تذكرة سفر في اتجاهين، ذهاباً وإياباً، وإنما يكتفي بالذهاب، تاركاً أمر العودة إلى حيث يشاء الله. لا يقيّد نفسه بتذكرة عودة، فهو حين يسافر لا يعلم متى بالضبط سيعود. إن طاب له المقام في الوجهة التي قصدها أطال المدة، وإن لم يطب له اختصرها، واختصاره هذا لا يعني عودته تلقائياً إلى المكان الذي منه أتى، إلى وطنه، فكونه سيّد وقته يقرر مواصلة رحلته إلى وجهة أخرى، ربما كانت في خطته قبل المجيء، وربما اختارها وهو مسافر. سيشتري تذكرة سفر إلى هذه الوجهة، وربما لوجهات جديدة، ينتقل من الواحدة منها إلى الأخرى، حتى يقرر العودة إلى وطنه أخيراً، بشراء تذكرة عودته من المكان الذي انتهى إليه.
نغبط هذا الصديق، وكل من هم مثله من محبي السفر. في كتابه «في حضرة الغياب»، يقول محمود درويش: «في كل سفر حكاية، لا تروى إلا بعد اجتياز الذكرى سنّ الخجل من أصحابها». وفي واحدة من أشهر قصائده يقول شاعر تشيلي بابلو نيرودا: «ﻳﻤﻮﺕ ﺑﺒﻂء/ ﻣﻦ ﻻ ﻳﺴﺎﻓﺮ». الحق أنه أضاف إلى ذلك آخرين أيضاً: «ﻣﻦ ﻻ ﻳﻘﺮﺃ / ﻣﻦ ﻻ ﻳﺴﻤﻊ ﺍﻟﻤﻮﺳﻴقى/ ﻣﻦ ﻳﺼﻴﺮ ﻋﺒﺪﺍً ﻟﻠﻌﺎﺩﺓ / ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ ﻛﻞّ ﻳﻮﻡ ﻧﻔﺲ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ/ ﻣﻦ ﻻ ﻳﻐﻴّﺮ ﺃﺑﺪﺍً عاداته/ ﻣﻦ ﻻ ﻳﻐﻴّﺮ ﻭﺟﻬﺘﻪ ﺣﻴﻦ ﻳﺤﺲّ ﺍلفتور»، ولكنه بدأ بمن لا يسافر.
ولأن صديقي هذا من أهل الكتابة، فإني متأكد من أنه يعمل بالنصيحة التي أسداها الكاتب فالتر بنيامين في كتابه «شارع ذو اتجاه واحد»، والقائلة: «احتفظ بمفكرة ملاحظاتك بصرامة. لا تدع أي فكرة تمرّ مجهولة». أقول هذا بثقة؛ لأن هذا الصديق وضع كتاباً أو أكثر، حول انطباعاته عن البلدان التي زارها مأخوذاً بفضول الكاتب وراصداً بعينيه ما رأى.
ألا يُذكّر عنوان «شارع ذو اتجاه واحد» بما قاله الشاعر العذب سيد حجاب وهو يعاتب الزمن: «ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء/ وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع»؟. ربما! في كتابي «ترميم الذاكرة»، وضمن وصايا الأم لابنها، كتبت: «اذهب بعيداً، ولكن تذكّر طريق العودة لأنه أصعب من طريق الذهاب»، لكن الصديق غاوي السفر مطمئن إلى أنه بعد كل سفرة، طالت أم قصرت، سيعود.

[email protected]

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"