عادي
زاد القلوب

«المحبة»... مشكاة طريقنا نحو الإيمان

14:40 مساء
قراءة 4 دقائق
أبو الحسن سمنون

الشارقة: علاء الدين محمود

«أصل الطريق إلى الله تعالى والقاعدة فيه، إنما هي المحبة، وغير المحبة إنما هو هباء منثور».

سمنون المحب

تلك الكلمات التي تفيض وجداً وحباً، وتذوب رقة، هي لسمنون المحب، وهو أبو الحسن سمنون بن حمزة الخواص، من أعلام السنة والتصوف، وأصله من البصرة، واستقر به المقام في بغداد، وقيل إنه كان يصلي في كل يوم وليلة خمسمئة ركعة، وعرف بمصاحبة كبار العلماء، وأشهر المتصوفين في بغداد، وأبرزهم الجنيد، وأبو الحسن سري الدين بن المغلس السقطي، وأبو العباس القلانسي، وقد ذكره فريد الدين العطار في مؤلفه «تذكرة الأولياء»، فقال عنه: «كان رحمه الله وحيداً في شأنه، فريداً في أوانه، مقبولاً لأهل زمانه، وهو في المحبة آية، والأكابر أقروا بكماله، واعترفوا بفضائله»، وعرف عن سمنون حُسن العبادة من دون تعب، أو ملل، كما اشتهر بالكثير من الصفات والشمائل الدينية، فقد كان ورِعاً، وزاهداً في الحياة كشأن السالكين الصادقين الذين ما فتنوا في الدنيا، وما زاغوا عن طريق ربهم، ومن أشهر مقولاته: التصوّف ألا تملك شيئاً، وألا يملكك أي شيء. وظل زاهداً لا يرى في الحياة ما يستحق من متع سوى محبة الله تعالى، وروى الإمام القشيري قصة تشير إلى زهد سمنون فقال: «فرّق رجل ببغداد على الفقراء أربعين ألف درهم، فقال لي سمنون: يا أبا أحمد، ألا ترى ما قد أنفق هذا، وما قد عمله؟ ونحن ما نجد شيئاً، فامضِ بنا إلى موضع نُصلِّ فيه بكل درهم أنفقه ركعة. فمضينا إلى المدائن، فصلّينا أربعين ألف ركعة».

* جوهر

ومقولة سمنون تعلي من شأن الحب، وتحضّ على السير في طريقه، فهو الأصل والزاد للتقرب من الله تعالى، حيث إن المحبة هي في الأساس جوهر التجربة الروحية، والتي هي في أصلها مسار عاطفي وجداني يبتغي تطهير النفس، والسمو بها، وهناك العديد من المدارس والاتجاهات في شأن الحب والعشق الصوفي، وكل مدرسة من تلك المدارس تعد سياحة روحية وجدانية تجيش عاطفة في محراب محبة الله سبحانه وتعالى، فمقولات الصوفيين وأصحاب التجارب الروحية وأشعارهم، هي ما يقدمه العاشق في سبيل الارتقاء إلى مقام المحبة الخالصة والأنوار الدرية، إذ إن مقولات هؤلاء المحبين هي خلاصة تجاربهم التي يريدون أن يقدموها لكل الناس من أجل تمثلها والنهل منها، وفي هذه المقولة، فإن سمنون يرى أن الأصل والقاعدة هي محبة الله عز وجل، فذلك هو المبتغى، ولا شيء من غير حب الإنسان لربه.

ولعل كلمات سمنون تلك، تحمل في طياتها موعظة شفافة للناس من قبل زاهد اختار طريق التقرب من الله تعالى، وخبِر دروب السالكين، وعرف أن على العبد ألا يبقى في نفسه شيء غير المحبة، وأن القلب العامر بالحب هو الذي تغمره البركات، فالمسلم الزاهد المتبتل السالك، يصبح في حقيقة أمره، مملوءاً بمحبة الله تعالى، والتي تغنيه عن كل شيء في هذه الدنيا، من مغريات وملذات ومناصب وثروات وأموال، لكن عليه أن يوطن نفسه، ويفتح قلبه للتجربة وتلقي المدد، فذلك الطريق هو شديد الصعوبة، ويتطلب من السالك أن يهذب نفسه ويبذل الجهد من أجل إدراك أعلى المراتب والدرجات في التقرّب من ربه.

ولعل المقولة في معانيها العميقة، تؤكد أن النفس البشرية دائماً ما تكون منشغلة بحب نعيم الدنيا وملذاتها، لا يزجرها عن ذلك شيء، إلى أن يحدث الله أمراً يقلب حياة المرء رأساً على عقب، إنه ذلك النداء الخفي الذي هو بمثابة منعطف جديد في مسار الإنسان، إذ تغمره النفحات الإيمانية فتدلّه على طريق مستقيم من المحبة والصلاح، ليولد إنسان جديد يكون همه وشغله الشاغل أن يتخلص من الخطايا والذنوب، وأن ينقي النفس من أدرانها التي علقت بها، في رحلة خالصة إلى ربّ العالمين، ليصبح زاد السبيل هو الزهد من أي شيء إلا محبة الله تعالى، وترك كل شيء إلا حبله المتين، حينها تتنزل عليه البركات السماوية والمدد الروحي وفيوضات من المعارف والإشراقات المبهجة التي تجعله فرِحاً بما أوتي من نعمة المحبة.

*قصة

وتشير المقولة إلى أن سمنون نفسه، كان حالة خاصة في العشق والمحبة والشوق إلى ملاقاة ربه، وذلك ما تكشف عنه سيرته كذلك، حيث إن ذلك السالك الزاهد، قد تقلب في أحوال المحبة، وكرس لها مقولاته وأشعاره، حتى اشتهر بخطبه في الحب، والتي كانت تؤثر في الناس تأثيراً شديداً، وفي ذلك الباب الكثير من القصص والحكايات التي مازال الناس يتداولونها بينهم في مجالسهم المعطرة بذكر الله تعالى، ومن تلك القصص ما رواه عنه فريد الدين العطار، الشاعر والعلامة في التصوف، والذي قال: «كان سمنون يعظ يوماً ويتكلم عن المحبة؛ إذ جاء طير، ووقع على رأسه، ثم نزل على يده، ثم جلس على حجره، ثم نقر بمنقاره على الأرض، إلى أن جرى منه الدم، وخرّ صريعاً»، ولعل الحكاية تؤكد قوة تأثير خطب سمنون في مقام الحب والمحبة، ومن أشهر أقوال سمنون في مقام المحبة: «لا يعبَّرُ عن شيء إلا بما هو أرقّ منه، ولا شيء أرقّ من المحبّة فما يعبّر عنها؟»، وتلك المقولة العذبة الرقيقة تكشف تماماً عن شخصية الرجل، فقد كان يدعو إلى المحبة، فخلّدَ نفسَه بالحب، وسُمّي بالمحب.

والمقولة تنتمي إلى منهج سمنون في عبادة رب العالمين، حيث جعل لنفسه أسلوباً خاصاً شكّل انقلاباً عما كان معروفاً عند أعلام التصوف، حيث إن سمنون قدم المحبة على المعرفة، وذلك ما توكده بشدة هذه الكلمات الباذخة التي تمثلها تماماً هذا العابد الزاهد، فسار في طريق الحب حتى عرف به، فقد كانت المحبة بالنسبة إليه طريقاً للوصل إلى أنوار الحقيقة والمعارف والمدد الروحي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdcvbhzf

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"