كيف نستعد من الآن لما بعد النفط؟ (2)

22:31 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد*

استكمالاً لقراءتنا السابقة حول التحديات الكبرى التي بات يواجهها النفط، ومنها خصوصاً، ما كنا قد لفتنا الانتباه إليه قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو التحديات التي يمكن أن تزداد في وجه النفط في حال وصول مرشحة الحزب الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس كامالا هريس إلى السلطة في البيت الأبيض، وهي المعروفة بتزعمها لتيار قوي داخل الحزب يهدف إلى تمرير ما يسمى الصفقة الخضراء الجديدة. لذلك، فقد تطلب الأمر بضع ساعات فقط على أداء اليمين الدستورية، كي يوقع الرئيس جو بايدن، حزمة من الأوامر التنفيذية، شملت أمراً قضى بإلغاء تصريح خط أنابيب النفط والغاز Keystone XL، الذي تكلف 8 مليارات دولار، وكان سينقل ملايين جالونات النفط من كندا إلى مصافي التكرير في الولايات المتحدة، والذي كان مثار جدل واحتجاجات على مدار السنوات العشر الأخيرة. كما وقع أمراً تنفيذياً شاملاً بشأن تغير المناخ في 27 يناير الماضي، أي بعد أسبوع من توليه المنصب، أعاد بموجبه صياغة السياسات الفيدرالية في كل شيء بدءاً من الحفاظ على المحيطات، إلى إغاثة المجتمعات التي تعتمد على الفحم والعدالة البيئية. وشمل ذلك، تعليقاً غير محدد المدة لإصدار عقود إيجار جديدة للتنقيب عن النفط والغاز في الأراضي الفيدرالية والأراضي المغمورة بالمياه، وإجراء مراجعة صارمة لجميع ممارسات التأجير والتصاريح النفطية الحالية.

ما بين الآراء المختلفة، التي تتراوح بين الجزم والتوقع، بأن عمر النفط بات أقصر مما كان يُتوقع، وأن وزنه في مزيج الطاقة العالمي، سيتراجع إلى أدنى مستوى له بحلول عام 2030؛ وبين الآراء الأخرى المغايرة، خصوصاً منها الصادرة من كبار منتجي النفط، من شركات نفط وطنية وشركات نفط عالمية وائتلافات منتجي النفط العالميين - تكون بلداننا الخليجية، أمام حالة حرجة من اللا يقين بشأن المستقبل القريب والمتوسط والبعيد، لأهم مورد مالي من موارد موازناتها العامة، الممول الأبرز لإنفاقها، بشقيه الاستثماري والجاري.

وفي ضوء كل تلك المعطيات التي سقناها سابقاً بناءً على مقاربة «تحليل الفجوات» (أي تحليل الفجوة القائمة بين ما هو قائم وما يجب أن يكون، أو ما بين الأداء الفعلي والأداء المفترَض أو المطلوب. وهذا يحدث عادةً حين لا تستخدم الجهة المعنية، الموارد الحالية المتاحة لديها على أفضل وجه، أو تخليها عن الاستثمار في رأس المال أو التكنولوجيا، ما ينتج عنه حصيلة دون مستوى الإمكانات الجيدة المتوقعة)، لا نستطيع القول إن هنالك قطاعات للطاقة المتجددة في دول مجلس التعاون، وإنما هنالك أنشطة ذات صلة بهذا القطاع، وذلك باستثناء دولة الإمارات العربية المتحدة التي ذهبت بعيداً في وضع اللبنات المؤسسية الأولى لهذا القطاع منذ إعلان مشروع «مدينة مصدر»، في عام 2006، وافتتاح منشآتها في عام 2010، كمحطة عالمية لمشاريع التكنولوجيا النظيفة، والنجاح في الفوز باستضافة مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا» في عام 2009، كمنظمة عالمية قرينة بمنظمة «أوبك»، إنما في مجال مصادر الطاقات المتجددة.

إلى ذلك أيضاً، لمّا كان رأس المال والسوق يتحركان بوتيرة أسرع بكثير من وتيرة جهات التشريع والقوننة، فإن الراجح أن تدخل منتجات ومدخلات قطاع الطاقة المتجددة، لاسيما الطاقة الشمسية، إلى أسواقنا في صورة أنشطة تجارية صغيرة، سرعان ما تتحول إلى أنشطة صناعية وسيطة وحتى نهائية، قبل أن تتمكن جهات التشريع من وضع قواعدها وقوانينها المنظمة لهذا السوق العالمي الصاعد بقوة. وهذا ما سيخلق إشكالية أخرى تتصل هذه المرة باعتبارات المواصفات والمقاييس. الأمر الذي يتطلب قيام كل دولة من دول المجلس بالمسارعة لوضع مثل هذه التشريعات المنظِّمة لهذا السوق قبل اتساع الفجوة بينه وبين جهات التنظيم والضبط الحكومية.

وبموازاة سرعة إنجاز البنية التشريعية التحتية المطلوب وجودها بإلحاح في الوقت الراهن، يتعين تجاوز ما يسمى بالخطوات الخجولة، كالتي أقدم بعض دول التعاون على اتخاذها، والتي يمكن أن ندرجها في إطار ما يسمى «سياسة التنويع الطاقوي» (تنويع الطاقة يتمثل في قيام بلد ما بتعزيز العرض والطلب على مصادر الطاقة المختلفة؛ تماماً كما يقوم المستثمر بتنويع محفظته الاستثمارية، كما فعل الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، حين وضع «سياسة تنويع الطاقة» الخاصة به في عام 2006 بعد قيام شركة غازبروم الروسية بقطع تدفق الغاز عبر خط الأنابيب الذي يعبر أراضي أوكرانيا، عن 7 دول أعضاء هي النمسا وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا وبولندا وسلوفاكيا) – نقول يتعين تجاوز تلك الخطوات الخجولة إلى إحداث نقلة نوعية في الكوادر الوظيفية العليا والوسطى العاملة في القطاع الجديد، وحقنها بجرعات من حيوية الشباب المجهز أكاديمياً وتقنياً، والمتحلي بأعلى مستويات الذكاء والديناميكية. وبهذا الخصوص نقترح إنشاء معهد خليجي أكاديمي متخصص في إعداد الكوادر المتخصصة في قضايا المناخ ومصادر الطاقة المتجددة.

على المستوى الإقليمي التعاوني، وهو مسار آخر مهم، يتعين تفعيل أداة التعاون والتنسيق والتكامل بين دول مجلس التعاون، من خلال المبادرة بإنشاء الهيئة الخليجية للمناخ والطاقات المتجددة، بميزانية خاصة معتمدة من قبل المجلس الأعلى، وباختصاصات ومهام تمكنها من مقابلة التحديات التي تواجه دول المجلس في مجال التغير المناخي والإحلال الطاقوي.

كما أن بوسع دول مجلس التعاون، اللجوء دائماً وأبداً الى الاتفاقية الأم، أو المرجعية الأصلية التي تحكم العلاقة بين كافة أطراف قضية تغير المناخ، أي اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (UNFCCC)، لاسيما المادة الرابعة بند 8/ح التي نصها «البلدان التي يعتمد اقتصادها اعتماداً كبيراً على الدخل الناشئ عن إنتاج وتجهيز وتصدير و/أو استهلاك أنواع من الوقود الأحفوري والمنتجات كثيفة الطاقة المرتبطة به»؛ والبند (10) من نفس المادة الذي ينص على «مراعاة مصالح البلدان التي تعتمد على إيرادات مستمدة من إنتاج و/أو تجهيز وتصدير و/أو استهلاك الوقود الأحفوري والمنتجات كثيفة الطاقة المرتبطة به»؛ واستخدامها - هذه المرجعية القانونية التي حرصت الدول النامية النفطية على تضمينها الاتفاقية الأم لحماية مصالحها المستقبلية - ورقة تفاوضية، ليس الآن، وإنما حين تزف ساعة الحقيقة بالنسبة لمستقبل النفط في سوق استهلاك الطاقة العالمي.

هذه مقاربة مطلوبة بإلحاح راهناً، لتحقيق اختراق نوعي في الهياكل التقليدية للاقتصادات الخليجية، ومقابلة تحديات الاستدامة وأمن الطاقة المستقبلي. وهي لذلك تتطلب تشكيل فرق عمل ابتكارية عالية الكفاءة والمهارة وصناديق دعم مالية متخصصة ومكرسة حصراً لهذا التوجه الاستثماري طويل الأجل.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"