عادي

غذاء المعجم

22:50 مساء
قراءة دقيقتين
1603

كتب الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه «ثورة الأدب»، 1933، مطالباً الأدباء بضرورة صقل اللغة؛ لتمتزج بالأدب، ولتكون له لباسًا شفافًا موسيقيًّا رشيقًا، ويؤكد أن هذا المطلب يحتاج من الأدباء إلى مجاهدة الأمر«جهادًا عنيفًا شاقًّا يتناول كل نواحي الحياة، ويتناول كل ناحية منها في مختلف صورها، ومن الحق أن نذكر بالتقدير والإجلال جهاد من سبقونا في هذا المضمار من الشعراء والكتاب، ومن رجال دار العلوم والأزهر، وممن يسمون أنفسهم اليوم أنصار القديم. هؤلاء جميعًا سعوا ويسعون سعيًا حثيثًا محمودًا في سبيل بعث ما كان قد ظل عصورًا طويلة طي الكتب القديمة، وجاهدوا فمهدوه، وردوا إليه الحياة. لكن اللغة كائن حي يجب له دوام التعهد، وتعهد اللغة في ناحية الأدب إنما يكون بدوام صقلها؛ لتزداد رقة ولطفًا، ولتكون موسيقاها مما يصلها بالأدب صلة وثيقة، ويجعلها أكثر من كساء له».

وتابع: «هذا الجهاد حظ الكتّاب والأدباء منه أكبر من حظ اللغويين وأصحاب المعاجم، ويكفي أن نذكر مثلًا لذلك ما يقصُّونه عن الكاتب الفرنسي الكبير فلوبير وجهاده في هذا السبيل؛ فهم يرون أنه كان يحار أحيانًا في اختيار اللفظ الذي يعبر أحسن التعبير عن فكرة من أفكاره، فيظل يقلب وينقب ويفكر أسبوعًا كاملًا؛ ليجد اللفظ الدقيق الصالح، وأنه حين كان يكتب قصته الخالدة «مدام بوفاري» ويقص انتحار بطلتها بالزرنيخ كان يحس طعم الزرنيخ في فمه فيجد لذلك العبارات الدقيقة التي تصف هذا المعنى وتصوره تصويرًا مضبوطًا. فهل لنا من الأدباء من يبلغ إخلاصهم لفنهم هذا المبلغ؟ هؤلاء هم الذين يصقلون اللغة ويجعلونها تلطف وتشف، وتصبح موسيقى تتصل بالأدب، لا مجرد ألفاظ تنقله كما كان شأنها في عصور مضت».

واختتم بالقول: «هؤلاء الأفذاذ المخلصون لفنهم هم الذين يجددون للغة حياتها قويةً رصينة، وهم الذين يعملون للأدب ويقيمون له أرفع صروحه. على أنهم في عملهم للغة إنما يعملون بوصفهم أدباء، وهم بعملهم هذا يقدمون للمعجميين غذاء جديدًا يفيدهم في معاجمهم أكبر الفائدة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"