عادي

الإبداع في فخ ثنائية الشعر والسرد

21:40 مساء
قراءة 5 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

كثيراً ما يثار سؤال عن الأسباب التي تجعل المتلقي يستمتع بجنس أدبي معين أكثر من غيره، والواقع أنه لم تكن هناك على الدوام إجابات قاطعة في هذه القضية التي شغلت أذهان كثير من النقاد والأدباء وهي «الذائقة الأدبية»؛ أي لم يتوصل الباحثون في مجال الأدب إلى معرفة أسباب اختيار القراء للون إبداعي محدد، غير أن الكثيرين يرون أن الذائقة نفسها مسألة غريزية موجودة في دواخل أي شخص، وهي قابلة لأن تنمو وتتطور، وهي تختلف من شخص لآخر، لأنها في الأساس هي نتاج الوعي، وتحتاج إلى التثقيف المستمر، خاصة تلك المتعلقة بوجوده الاجتماعي؛ أي ثقافته المحلية، ثم يسعى بعد ذلك إلى تكوين ذخيرة من المعارف الإنسانية.

لعل من أكثر الأسئلة الشائعة في عالمنا العربي على وجه الخصوص، تلك المتعلقة بثنائية الشعر والسرد، ولماذا تفوق الأول وساد في حقب ماضية، بينما تمددت الرواية على حسابه في العصر الراهن؟ والسؤال في طبيعته شديد التعقيد، ولكن علينا في البدء أن نشير إلى أن الذائقة ليست لديها سقف محدد؛ بمعنى أن بعض القراء قد يعجبون بالقصيدة، وبالنص السردي، في ذات الوقت من دون صنع جدار بين النمطين الإبداعيين، فكثير من النقاد يخلق وضعاً مغلقاً؛ بحيث يظهر فيه أن الذي يعشق الشعر، هو بالضرورة لا يحب الرواية، ولعل التعامل عبر تلك المعادلة الثنائية مع الإبداع يشير إلى خلل ما، والأدب في حقيقته كمادة جمالية هو أوسع من تلك النظرة الضيقة، وهذه الحالة حب أكثر من نمط إبداعي واحد لا تنطبق على بعض القراء فقط؛ بل وكذلك الكتاب، فمنهم من يجيد الكتابة الشعرية والسردية وحتى المسرحية، ولعل ذلك ما أدى إلى مسألة في غاية الأهمية وهي أن الشعر نفسه قد تسرب عبر أدواته إلى داخل النص السردي الروائي؛ بل والمسرحي كذلك، فهناك الرواية المستخدمة للغة الشعر في لغتها وموسيقاها وأسلوبيتها، وهنالك نصوص مفتوحة؛ بحيث يصعب على النقاد نسبتها إلى نمط إبداعي معين، وقد وصلت الرواية في عصرنا هذا من التجريب ما جعلها تتماهى مع الشعر والكثير من الأجناس الإبداعية الأخرى.

محاربة الجديد

ومن المهم أن يكون هناك أفق يستوعب التحولات التي تحدث في الأجناس الأدبية، فعلى سبيل المثال، عندما حدثت متغيرات عصرية ومجتمعية في العالم العربي أدت إلى ظهور قصيدتي النثر والتفعيلة، لقيتا قبولاً من المبدعين، والكثير من القراء، ولكن محبي الشعر القديم، نصبوا أنفسهم حراساً وأوصياء على الذائقة، ورفضوا بشدة الإقبال على ذلك الوافد الجديد، عندما قرروا أن قبول تلك الأنماط الشعرية الجديدة هو بمثابة تراجع في الذوق، وهذا بالطبع لم يكن صحيحاً، فالمتغيرات التي تطرأ في جنس إبداعي ما، لها علاقة بالتطور الاجتماعي والواقع الإنساني، لأن اللغة نفسها تتغير طبقاً لذلك، ومن الواضح أن هؤلاء النقاد وحراس القديم، قد تعاملوا مع الشعر العمودي بنوع من التقديس، لأنه ارتبط بالعرب بطريقة كبيرة وصار هو أدبهم الخالد، ولكن التطور ليس هو المقابل للهجر، فهو ليس دعوة إلى ترك الشعر؛ بل الارتقاء به؛ بحيث يستجيب للمتغيرات المجتمعية والعصرية والثقافية، ولعل تلك المعركة التي أثيرت عجلت في حسم الأمور لمصلحة الجديد، لأن الناس دائماً ما يقبلون، بفعل الفضول ودافع الحرية، إلى أي شيء يثير الجدل، وبالفعل فقد خلق القراء والمتلقين علاقة مع شعري التفعيلة والنثر؛ بل أصبح الشعراء يتطلعون نحو تجارب جديدة عبر الاحتكاك المستمر بالثقافات الأخرى، مثل شعر الهايكو والزن وما شابهه، لأن الشعر والأدب بصورة عامة لا يتطوران إلا عبر تلك الاحتكاكات التي تنقل إلى الإبداع المحلي تجارب جديدة، وكل ذلك الأمر شديد العلاقة بالذائقة وتطلعها نحو الإشباع الإبداعي.

وما ذكرناه بخصوص تجربتي قصيدتي التفعيلة والنثر، ينطبق بصورة كبيرة على واقع العلاقة بين الشعر والسرد، أو القصيدة والرواية بصورة خاصة، وهذه مسألة جديرة بالاهتمام والانتباه، فنسبة لأن الشعر ارتبط بالعرب، باعتباره الجنس الأدبي الذي طالما عبر عنهم وكان لسانهم لدرجة أن سمي ب«ديوان العرب»، وبالتالي تشكلت لدى كل الشعوب والقبائل العربية منذ قديم الزمان ذائقة جمالية، بالتالي عندما تظهر الرواية ويقل معها الاهتمام ب«ديوان العرب»، فإن ذلك بطبيعة الحال يؤدي إلى الجدل.

إن الكثير من القراء والمتلقين العرب نشأت علاقتهم بالأدب من خلال الشعر، وتشكلت بالتالي لديهم ذائقة «أدبية»، لا نقول «شعرية» فقط، وتكّون لديهم رصيد إبداعي كبير جعلهم يهتمون بالرواية كجنس إبداعي جديد، لأن لديهم في الأصل اهتمام ومعرفة بالأدب، بدأت من خلال العلاقة بالشعر، وكما ذكرنا فإن الذائقة لا حدود لها، لذلك فإن العلاقة بالرواية سادها الترحاب من قبل المتلقين وجمهور القراءة الذين تفوقوا في ذلك الأمر على النقاد المحافظين الذين يريدون أن يحصروا القضية في «إما شعر»، أو«رواية»، كما فعلوا من قبل عندما أرادوا أن يضيقوا من رحابة الذائقة الأدبية وحصر القصيدة في الشعر العمودي دون غيره، وتلك قسمة يضيق به الخليل بن أحمد الفراهيدي نفسه، لكن ذائقة القراء العرب تخطت حدود تلك الوصاية ذات الحمولة الثقيلة، ومثلما رفضت جبرية تريد لها البقاء داخل حدود القصيدة العمودية، فهي ترفض كذلك إرادة النقاد الذين يريدون أن يقيموا ثنائية جبرية أخرى بين الشعر والرواية، فالذائقة ليست مادة أو شيئاً ساكناً فهي تتطور بتطور الوعي والمتغيرات، وبانفتاح الثقافة المحلية على الثقافات الأخرى، وقد عجلت ثورة الاتصالات وسرعت من عملية التواصل بين الشعوب، وليس صحيحاً ما ظل يذكره البعض دون كلل أو ملل من أن الجوائز والمسابقات لعبت الدور الأساسي في سيادة الرواية على الشعر؛ بل أن للشعر كذلك جوائزه ومسابقاته، لكنها الذائقة المتحررة التي تريد التعرف إلى كل ما هو مختلف، وتلك هي سمة العصر.

ويبقى الشعر

وعلى الرغم من ذلك يظل الشعر موجوداً وبألق مستمر طالما أنه يطور من أدواته وأساليبه وأفق تعبيره؛ بحيث يشتمل على المعنى، فالشعر له خصوصية ليست عند العرب وحدهم؛ بل وفي كل العالم، فإلى جانب أنه يقوم على المتخيل والفانتازيا، فهو كذلك، كما يقول الفيلسوف نيتشه، مجال حيوي للأفكار والتصورات والمواقف، كما أنه يبرز عمق وجماليات اللغة، وذلك ما ذهب إليه الفيلسوف هايدجر عندما وجد أن الشعر يظهر ما يظل خافياً في اللغة «العادية»؛ أي أن الشاعر يرفع من مستوى اللغة؛ أي لا يظل حبيس ما هو سائد من لغة الاستخدام اليومي. فبحسب هايدجر، فالشعر هو اللغة الأصلية للشعب؛ بل وذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال إن وظيفة النص الشعري هي الكشف عن العالم، فتلك ليست مهمة الفلاسفة فقط، كما أن الشعر يحتاج إلى موهبة خاصة ومتفردة، وليس كل ما نراه من نصوص تنسب إلى الشعر اليوم هو شعر في حقيقته.

إلى جانب كل ذلك، فإن الكثير من النقاد العرب يسيئون إلى حضارتهم كثيراً عندما يظهرون الرواية كشيء جديد تماماً على ثقافتهم، فالحقيقة أن العرب عرفوا أشكالاً سردية عبر تاريخهم الحضاري الطويل، وهي المتمثلة في الحكايات والقصص الواقعية والأسطورية، إلى جانب إبداعات في الكتابة التي تجمع بين النثر والشعر والحكاية، على نحو ما فعل أبو العلاء المعري في العديد من أعماله وعلى رأسها «رسالة الغفران»، التي عدها بعض قليل النطفة الروائية الأولى في الأدب العرب، ولعل ذلك الأمر يبين مدى الضعف في تناول النقاد وغيرهم من الباحثين للتراث.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"