عادي

جمال ينبض بروح البحرين

23:12 مساء
قراءة 4 دقائق

د رفيعة غباش
كان ذلك في يناير 2002، في افتتاح مركز الشيخ إبراهيم.

نعم، مرتْ عشرون عاماً، وما زالت الشيخة مي بنت محمد بن إبراهيم آل خليفة تغرس وردةَ إنجازٍ، تلوَ أخرى، حتى شكَّلَتْ شخصية الجمال والجلال للثقافة والتراث في البحرين؛ لتتكاملَ اللوحة الوطنية الملونة المبهجة التي رسمتها أم خالد للمشهد الثقافي؛ ففي كل شبر من هذه الجزيرة ترى مشروعاً جميلاً يضيف إلى وزن البحرين التاريخي والثقافي والفني.

عشرون عاماً، وأنا شاهدةٌ مع العالم كله على هذه التجربة، بكل حرْصي على معايشة هذا الإلهام البهي، ومتابعة نمُوِّ تلك المشاريع كزهور في بستان تملكه امرأة لم تكن مضطرة للخروج من منزلها، لكن قررت أن تغير وتضيف؛ فداخلها كونٌ أكبر من ذلك الهدوء الجامد، يريد أن يتحقق ويبدع وينجز ويوجَدَ فيوجِدَ.

خرجت لتبحث بين أنقاض السنوات عن بيت جدها شيخ الأدباء الشيخ إبراهيم آل خلفية الذي حضر مجلسَهُ قادةُ الفكْرِ في ذلك الزمن من الريحاني وغيره من الكتاب والأدباء، وتزيل عنه ركام النسيان، يحثها عشق التراث؛ فإن الذي سيضيع تاريخه وهو قادر على حفظه، لن يستطيع الاحتفاظ بمستقبله!.. لم يكن الأمر مجرّد عمل روتيني بين حفيدة وجد، إنما شعرتُ بأنها تكلِّمُ هذا المكان، وتحاور هذه الأرض، وتفاوض آثار الزمن، ليمكنها أن تعقد صفقة روح صافية بينها وبين التاريخ، وتوقع باسم الوطن، على بنودٍ كلّهَا مشاعر خالصة لوجود غير مزيف..

بيت الجدّ بكل ما قيل فيه من شِعر، ودُرِسَ فيه من علوم صارت جدرانه بالتبعية مفكرةً وشاعرة، ثم اختفت ككل شيء تحت أنقاض السنوات في انتظار المختار الذي يستحقه، فيجده، لتأتي الشيخة مي بعد وصية والدها لها -في المنام- بأن تبحث في تاريخ جدها، ملبية نداء ذلك البيت.. إنها المختارة إذن!

بدأت بهذا البيت مشروعها الذي لم يُخطَّطْ له بعدُ؛... وهكذا الروح وعوالمها المبدعة التي لا يمكن الحركة فيها إلا بموهبة، وأشهدُ أن مي موهوبة بحق، وإلا لما انطلقت في هذا الفضاء الأزرق المزدحم بأمور شتى، محلِّقةً بمشاعر الانتماء للأجداد، جناحاها كتابان بدأت بكتابتهما عنهم، ثم انطلقت في ترميم بيوتهم، وأكملت المسيرة لتحتوي مشاعرها وجهودها كل بيت له بصمة ولو بسيطة؛ من أجل أن تستعيد حضوره التاريخي، وتنعشه بنشاط لا يتوقف يوماً.

أليس محظوظاً إذنْ من تابع هذه التجربة؟

لقد تأكد التاريخ أن مي صاحبة بيتٍ، وبِنْتُ تراثٍ بارّة، ولن تفر من معركة التحديات مهما كانت.. وإن لم تكن تحديات لوجستية (مرتبطة بالمكان والزمان، والإمكانيات المادية) فقط، إنما كانت مرتبطة بظاهرة الضد أيضاً، وما أصعب أن يأتيك الضد من حيث لا تدري!

لكن أتاها المدد من القيادة الحكيمة التي تتمتع بها البحرين عبر التاريخ، فقدَّمَ لها ملك البحرين كل أنواع الدعم المادي والمعنوي وعلى كل المستويات.

وساندتها الأميرة سبيكة بنت إبراهيم الخليفة (حرم ملك البحرين) بتفضلها بدعم غير محدود، وتبنيها كثيراً من المشاريع التي قامت بها مي.

أما الأب العطوف المنصت لهموم مي، بابتسامته الحنونة في هذه السنوات العشرين، فكان الشيخ خليفة (رئيس مجلس الوزراء) رحمه الله وأسكنه الجنة.

انطلقتْ مي غير قادرة على التوقف، ترى عن بعد صورة ذلك المشروع بعد إنجازه، ولم تحدد هدفاً آخر لهذه الرحلة، وبين حين وآخر كانت تزيل عن أجنحتها بعض عفر المعوقات، لتنطلق من جديد..

هل ترون شهادتي مجروحة؟

أبداً، ليست مجروحة، وإن كنْتُ الصديقة القريبة من الشيخة مي منذ عام 2001 لليوم؛ وكل من يعرفونني يعرفون أني لا أجامل، ولا أدعي، وقد ظللْتُ معها من لحظة (الشخبطة) على أوراق تخيل المشروع –كما يفعل كل مبدع في بداية عمله الفني الذي سيحقق به جزءاً من روحِهِ- حتى اكتمال المشروع!.

لم تكن معجزتها في الإنجاز فقط، إنما في زمن الإنجاز أيضاً؛ فكل مشروع لم يأخذ منها سوى ثمانية شهور أو سنة على الأكثر. ولأن الله يحب الإنسان المخلص في عمله، صاحبَ النية الطيبة، كانت تتفتح لها المشاريع، وتطيع الظروفُ رغبتها، وتخضع الأشياء لتصوراتها، فانطلقت من بيت الشيخ إبراهيم لشراء وترميم بيت الشعر (للشاعر إبراهيم العريضي)، وبيت سلمان بن مطر، وبيت القهوة وبيت الكورار (للحرف القديمة)، ثم طريق (الحرير)، ثم القلاع... وهكذا.. بمثل هذه المشاريع الثقافية التراثية مجتمعةً ينتقل جانبٌ من خريطة البحرين من الجغرافيا الإقليمية إلى العالمية، لتتوالى الجوائز لهذه المشاريع وصاحبتها اعترافاً دولياً بما قامت وتقوم به.

وعن نفسي، فقد كنتُ أول من استلهم روح هذه المشاريع المبادِرَةِ على أرض الواقع، حين عدتُ إلى بلدي، فقصدت المنطقة التي نشأت فيها (سوق الذهب في ديره)، وأنشأت أول متحف يوثق لتاريخ النساء، ولم يكن ذلك هيناً، لولا أني عايشتُ تجربة مي، واستوعبتها، فأدركت أن كل شيء يمكن أن يتحقق إذا كانت هناك نية صادقة، وعزيمة مثابرة.

أصبحت مشاريع الشيخة مي نقطة استقطاب لمن يود الانطلاق في إحياء تاريخ بلده وتجديد ثقافته ورؤيته، واتسعت رؤيتها لتحوي الشباب، فكان مشروع (تاء الشباب)، وانضم المحبون بكل الدعم والمساندة، لنرى فيما بعد أسماءهم على المشاريع التي دعموها.

هذا هو الجمال البحريني الذي تشعر في قلبه بنبضات الشيخة مي، وفي ألوانه ببريق عينيها الآملتين دوماً بالإنجاز.

فَتحية للبحرين التي أنجبت مي!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"