عادي

أزمة الفكر.. حالة عربية

16:32 مساء
قراءة 6 دقائق

الشارقة - علاء الدين محمود
تلعب الفلسفة دوراً كبيراً في حياتنا، فهي أساس تقدم الشعوب والحضارات ونهضتها في مختلف المجالات، وما كان للتطور العظيم في العلوم والاكتشافات أن يحدث لولا الفكر وتوقعاته، لذلك فإن الدول المتقدمة تولي أهمية خاصة للفلسفة حيث أصبح تدريسها إلزامياً حتى في المدارس ما قبل مرحلة الجامعة، وذلك لكونها تشتغل على مستوى العقل وتحفز على التفكير الصحيح والسليم إلى حد أن ماركس أكد أن دور الفلسفة كان ينصب في فهم العالم وآن الأوان أن يتجه نحو تغييره.
في زمن مواقع التواصل لا يمكن القول إن الفلسفة قد انتهت فهي التي تعلم الناس قراءة وفهم التاريخ والكشف عن الظواهر وبنيتها وما مدارسها واتجاهاتها المتعددة إلا لأجل فهم الواقع والطبيعة وما يدور في الحياة من تقلبات ومواقف قد تبدو غير واضحة، بالتالي هي تسبر تلك الأغوار الغامضة في الوجود وتقدم الحقائق الساطعة والناصعة، كما أن الفلسفة تعمل على مستوى إثارة الأسئلة فتستنطق كل ساكن وصامت لتكشف لنا ما وراء الظواهر.

* اهتمام
لقد أولت البلدان الغربية تحديداً أهمية كبيرة للفلسفة، فهي تشكل عموداً أساسياً في مجتمعاتها، بل عملت على ترويج منتجاتها الفلسفية من مقولات ومفاهيم ومصطلحات، كما تفعل ألمانيا التي اشتهرت بقدر كبير من الفلاسفة المجيدين مثل هيجل وفويرباخ ونيتشه وكانط وغيرهم، وكذلك تفعل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، بل وظل ذلك الشيء مصدر فخر بينهم، فلئن احتفظت ألمانيا بمركز الصدارة طويلاً في أعداد الفلاسفة المبرزين والذين أثروا العالم بمقولاتهم ومفاهيمهم، فإن تلك الصدارة انتقلت أيضاً إلى فرنسا مع تطور الفلسفة في أزمنة الحداثة وما بعدها مع ظهور فلاسفة ومفكرين في العصر الحديث بقيمة فوكو ودولوز وجاك دريدا وغيرهم.

على الرغم من التطور الكبير في التقنيات والثورة الرقمية، لا تزال مقولات الفلسفة تشكل مرجعية أساسية للحكمة في كل ضروب الحياة، ولعل من نتائج الاهتمام الكبير بالفكر هو الاعلاء من شأن النقد في تلك المجتمعات و هو مجال أساسي للتطور، كما أن الفلسفة جعلت تلك الشعوب تهتم بشخصية الفرد والحيلولة دون أن تذوب في الجموع على مستوى التأثير الفكري، وذلك أحد الأخطار الكبيرة التي تواجه البشرية في ظل انفجار ثورة المعلوماتية وانتشار شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي جعلت الناس في حالة اغتراب عن جوهرهم الإنساني والذي يتحقق عبر التواصل الفعلي وتلك واحدة من مقولات الفلسفة الأساسية.

توقعات
ولئن كانت الثورة الرقمية قد حققت واقعاً جديداً وشكلت منعطفاً كبيراً في حياة البشر، فإن ذلك الأمر لم يكن بعيداً من توقعات الفلاسفة فقد ورد في كتاب «محاورة فايدروس» لأفلاطون: «يا تحوت، يا سيد الفنون الذي لا مثيل له.. هناك رجل قد أوتي القدرة على اختراع الفن، وهناك رجل غيره هو الذي يحكم على ما جلبه هذا الفن من ضرر أو نفع لمن يستخدمونه. والآن، وبوصفك مخترع الكتابة، أراك قد نسبت لها عكس نتائجها الصحيحة بدافع تحيزك لها. ذلك لأن هذا الاختراع سينتهي بمن سيعلمونه إلى ضعف التذكر، لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب». ذلك الاقتباس الضارب في القدم لأفلاطون والذي يعود إلى عصور سحيقة ما يزيد على ألفي سنة، لايزال يكتسب راهنية وأهمية كبيرة فهو يضعنا تماماً أمام عصرنا الحالي، حيث هيمنة وسيادة مواقع التواصل الاجتماعي والكتابة ومخاطرها وآثارها على «الحكمة»؛ أي الفلسفة، حيث أن «تحوت»، هو شخصية مصرية قديمة وهو مخترع الحروف التي أريد منها أن تحفظ الحكمة والتي منحت المصريين ـ بحسب سقراط ـ حكمة تتجاوز حدود الإمكانيات الطبيعية، لكن هذا الاختراع رغم أنه قد حفظ «الحكمة»، إلا أنه، كأي مكتشف جديد، كان ينظر إليه بأنه يحمل العديد من المخاطر ومنها الاضرار بالذاكرة الطبيعية، وهذا بالضبط ما يقال الآن عن التطور الرقمي وثورة الاتصالات والمعلوماتية وما قادت إليه من انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أفرزت هي الأخرى واقعاً جديداً، حفظت ذاكرة الكتابة ولكن لها أيضاً مضارها، ولكن تظل، تماما مثل عملية اختراع الحروف والكتابة، لها فوائدها الكبيرة والجمة.

* فوائد
لعل من أبرز فوائد مواقع التواصل الاجتماعي هي أنها تحفظ ذاكرة المقولات الفلسفية نفسها وسيرة الفلاسفة وما أنتجوه من مفاهيم، فلئن كانت هنالك قلة تطلع على الفلسفة عبر الأكاديميات والتخصصات الجامعية والمؤلفات والكتب، فإن هناك الملايين من الأفراد حول العالم صاروا يعلمون من هو أفلاطون وسقراط وهيجل وحتى فلاسفة العصر الحديث الذين لا يزالون يثرون الحياة بالمفاهيم والمصطلحات الجديدة، إذ صار أمر المعرفة ميسوراً فإن هي إلا ضغطة زر واحدة تحيلنا إلى مؤلفات وكتب ومراجع وأفكار لعظماء الفلسفة، بل هناك مواقع معينة صارت تتخصص في الفكر الإنساني والحوارات الفلسفية، وذلك ليس بغريب لأن الوسائط صارت هي جامعة وحياة تعلم الإنسان وتسهم في تثقيفه، فانتشار السيئ لا يجب أن يحجب النظر والتفكير عن الجيد والذي هو أفيد، بل وأكثر من ذلك، صارت تقنيات الوسائط الجديدة للشبكات الاجتماعية مثل: فيسبوك، وإنستغرام، وماي سبيس، وتويتر، ويوتيوب هي نفسها محط اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس، لكونها تُغيِّر الممارسات الاجتماعية والسياسية والمعلوماتية للأفراد والمؤسسات في جميع أنحاء العالم، بل وظل هؤلاء المفكرون والفلاسفة في لهاث مستمر لرصد تلك المواقع وأثرها، وذلك بسبب الطبيعة السريعة التطور لتقنيات الشبكات الاجتماعية، وهو الأمر الذي يؤكد في كل الأحول ضرورة اهتمام الفلسفة بتلك المواقع وما تنتجه من ظواهر اجتماعية وفكرية وسياسية، لأن اهتمام الفكر يهتم بالفعل بتفسير الظواهر المختلفة في الحياة، فمما لاشك فيه أن تلك المواقع تمارس فعل إعادة تشكيل الأخلاق والتربية والقيم وغيرها الأمر الذي ينعكس على السلوكيات الاجتماعية، وكذلك سلوك الفرد الذي أولت له الفلسفة اهتماماً خاصاً، فالملاحظ أن الإنسان الفرد في ظل التطور التقني الكبير في هذا العصر، صار وحيداً يتواصل مع الآخرين والعالم خلف شاشة زجاجية في عالم متشظ يفتقد بالفعل للتواصل الحقيقي، وهنا تبرز الحاجة الملحة للفلسفة بتحليلها الصارم.

* أهمية أخلاقية
بالفعل عدد من المفكرين المعاصرين أولوا اهتماماً خاصاً بمسألة الأخلاق في ما يتعلق بالاستخدامات الاجتماعية للإنترنت، ومن هؤلاء برز عدة فلاسفة من أمثال الأمريكي ألبرت بورجمان المتخصص في فلسفة التكنولوجيا، وكذلك الأمريكي الآخر هوبير دريفوس، وهؤلاء تأثروا في الأساس بنظرة الفيلسوف الألماني الشهير هيدجر تجاه التقنية إذ عدها قوة متجانسة ذات تأثير مميز وقوة تميل إلى تقييد أو إفقار التجربة الإنسانية للواقع بطرق معينة، بينما اهتم المفكر بورغمان وديفوس بالجوانب الإيجابية للشبكات التواصل الاجتماعي خاصة في ما يتعلق بغرف الدردشة ومجموعات الأخبار والألعاب عبر الإنترنت.

* استعادة
الملاحظ أن مواقع التواصل الاجتماعي تحتشد بكلمات ومقولات لفلاسفة عظام، لأسباب مختلفة، ففي الحوارات التي تجرى في تلك المواقع تحمل قدراً كبيراً من المقولات لفلاسفة كبار توظف من أجل الانتصار لموقف معين في سياق الحوار، وكذلك يلاحظ انتشار المقاطع التي تحمل مقولات فكرية، وتلك الاستعادة للمفاهيم والمصطلحات تؤكد أهمية الفلسفة، ولئن كانت تلك المفاهيم تردد بصورة ببغائية من قبل مرتادي تلك المواقع فإن في ذلك أيضا خير كبير إذ يرسخ المصطلحات الفلسفية وللقارئ الخبير إدراك معانيها ومدلولاتها، وذلك يشير ويؤكد أن مواقع التواصل الاجتماعي تزيد وتعزز من حضور المثقف والمبدع، فالكثير من هؤلاء المفكرين عرفوا أهمية «السوشيال ميديا» فصارت لهم صفحات يلتقون فيها بصورة مباشرة مع جمهورهم، الذي يتابع بشغف ما يكتبونه من مقالات أو تدوينات صغيرة أو تغريدات، بحسب الموقع المعين، بالتالي فإن من فوائد ذلك الأمر تحبيب الفلسفة والتفكير الفلسفي لجمهور تلك المواقع، الذي سيعرف، ربما لأول مرة، أن الفلسفة ليست شيئاً صعباً أو مبهماً أو غامضاً.

* الفكر العربي
إن ذلك الاهتمام الكبير بالفلسفة في الغرب، تفتقده بلداننا العربية، وتلك مفارقة كبيرة، فعلى الرغم من أن العالم العربي والإسلامي يمتلك إرثاً وتاريخاً كبيراً في ما يتعلق بالمنجز الفكري، ووجود فلاسفة من الحجم الكبير من أمثال ابن رشد الذي استفاد الغرب كثيرا من مقولاته الفكرية، وكذلك ابن سينا والفارابي وغيرهم، إلا أن الشعوب العربية لم تول أهمية كبيرة لترويج ذلك المنجز، وهو الأمر الذي بات أكثر إمكانية مع الثورة الرقمية وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، فمن الممكن الاستفادة منها في ذلك الشأن، بدلاً من الشكوى المتكررة من سلبيات تلك المواقع والتي تخضع للإنسان الذي يمكن أن يوجهها حيث يشاء، بالتالي يفهم الناس أن الفلسفة هي أمّ العلوم، ووجودها في الحياة اليومية ضرورة تعادل بل وتفوق الفروع والمجالات العلمية المختلفة مثل: الطبّ والهندسة والعمارة، فهي المجال الذي ترتقي به الأمم، بل هي التي تقود للتطور في مجالات العلوم الأخرى، فهي بمثابة الرافعة وخريطة الطريق التي تقود إلى الاكتشافات العلمية.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"