عادي

شوبنهاور.. الناقم على الفلاسفة

22:50 مساء
قراءة 3 دقائق
6

القاهرة: الخليج

حين ولد الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788 – 1860) لم تكن أسرته الصغيرة تعيش في وئام، فالحياة بين الأب والأم كانت جحيماً، تشعله الغيرة والحنق من جانب الزوج، وفي قلب تلك الدوامة من الصراع والكراهية نشأ آرثر، يربطه بأبيه عطف بالغ وإعجاب وتعلق به، أما علاقته بأمه فكان يشوبها فتور ظاهر، وجفوة تتزايد مع الأيام، ويزيد من حدتها إهمال الأم لابنها.

كانت الأم متفرغة لكتابة الروايات، وكانت كتبها تلقى نجاحاً كبيراً، وكان الأب يحلم بإعداد ابنه ليخلفه في إدارة أعماله التجارية الكبيرة، لكن الموت لم يمهله، فمات والفتى لم يجاوز السابعة عشرة من عمره.

خلّف موت الأب في نفس آرثر شوبنهاور لوعة مضنية، وحاول أن يحلّ محل والده في تجارته، لكنه لم ينجح، وظل ناقماً على أمّه، لما أورثته إياه من عنف النزوات، وهو ميراث وجده متعارضاً مع ما كان يحسه في نفسه من نزوع قوي إلى حياة الفكر والتأمل، بل رأى فيه خطرا ماثلاً يتهدده في أعز أمنياته، أن يبلغ القمة من حياة الفكر في عصره، بل في تاريخ الإنسانية كلها.

ظل آرثر ملازماً دار أبيه، مقاتلاً في معركة خاسرة، باذلاً جهده في الإبقاء على تجارة الأب، مبتعداً عن الناس، كارهاً صحبتهم، ولم تبق الكراهية بين الأم وابنها صامتة، فسرعان ما اتخذت شكل حرب معلنة، فكانت تكتب له: «لعلك لا تشعر بأنك شخص ثقيل ممجوج، تعافه النفس، وأن عشرتك لمما لا يطيقه الإنسان»، أو تخبره في خطاب آخر: «أنت وحش مخيف منفر لا سبيل إلى فهمه».

مع ذلك لم تنقطع زيارات شوبنهاور لأمه، وقد تعرف خلال إحدى هذه الزيارات إلى الشاعر جوته، ونشأت بينهما صداقة قوية رغم فارق السن بينهما، إلا أن الأم لم تشارك صديقها جوته رأيه في ابنها، وإيمانه بنبوغه، وعندما نشر الابن رسالته التي حصل بها على إجازة الدكتوراه عام 1813 من جامعة برلين، تحت عنوان «في الجذور الأربعة لمبدأ العلة الكافية»، شعرت الأم بغيرة جنونية من ذلك الابن الذي تمقته، فلم تجد إلا سلاح السخرية والاستهزاء تنال به منه، فإذا بها تصيح أمام جمع من زوارها: «الجذور المربعة كما لو كان كتاباً من الوصفات الطبية للمشتغلين بالعطارة» إلا أن الفتى شوبنهاور نظر إليها في برود قائلاً: «هذا الكتاب يا سيدتي سيكون محل دراسة الناس واهتمامهم عندما تكون أكوام القمامة ذاتها قد خلت من نسخة واحدة مما تكتبين».

ويؤكد كتاب «فن الأدب.. مختارات من شوبنهاور» ترجمة شفيق مقار أن تلك الواقعة كانت مسك الختام في علاقة شوبنهاور بأمه، إذ انصرف عن زيارتها، وقاطعها قطيعة نهائية، وبعد أن صفّى أعمال أبيه عاش عيشة السادة المترفين على دخل موفور من إرثه وحيداً، أو متوحداً مع الفكر وأحلام العظمة التي طالما راودت نفسه.

كان عاطلاً في عالم حافل بالحركة والنشاط، وكان يبرر ذلك بأن «العبقري لا ينبغي له أن يكبل نفسه بأغلال التعود على أداء عمل معين، لأن مجرد وجوده في هذا العالم كاف في ذاته بوصفه نعمة كبرى للجنس البشري كله»، ولطالما قال عن نفسه إنه «ولد ليترك أثراً باقياً لا يمحى من جبروت عقله في حياة الجنس البشري».

وكما يرى بيلي سوندرز، في تقديمه للمختارات، فإن شوبنهاور كان ينكر جميع الفلاسفة المحدثين، فلم يعترف إلا بإيمانويل كانط، وكان يرى أن بقية الفلاسفة: «أدعياء يحاولون إيهام الناس بأنهم فلاسفة، وهم ليسوا إلا حفنة من المدرسين وأفّاقي المدرجات».

نشر كتابه الشهير «العالم إرادة وتمثلاً» ومُني بفشل كبير، وعاش 72 عاماً قضى نصفها مفكراً متأملاً كاتباً، إلا أن العالم لم يلق له بالاً إلا في أخريات أيامه، فقد جاءته الشهرة بعد طول انتظار، وإذا بالفيلسوف الذي يحيا حياة العزلة والرهبنة من عشرات السنين يصبح بين عشية وضحاها محط أنظار الجميع وتهافتهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2xc6t4pt

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"