تحقيق: محمد الماحي
إلى سنوات مضت كان النجاح والتأثير والإسهام في حياة البشرية معياراً للشهرة، لذلك كانت قوائم المشاهير تتضمن أسماء العلماء والمخترعين والمكتشفين، والقادة، وأشهر الفنانين والشعراء، والكتّاب والإعلامين، لكن هذا المعيار لم تعد له قيمة في عصر مواقع التواصل و«الفاشينيستا». وأصبح السباق والتنافس في «مواقع التواصل»، مؤلمين وليست لهما صفة أو عنوان، كل الهدف منهما الوصول للشهرة وأكبر عدد من المتابعين والإعجابات، لا تهم القيم أو الأخلاق أو القانون أو حتى الأعراف والتربية. ولم يعد هناك مانع أو حد لشيء، تنهمر عبرها الأخبار والأفكار والعروض كالطوفان، لا تفرق بين أي شيء في طريقها، ولا تميز من يتابعها، من الطفل إلى كبير السن إلى الشاب، مع إتاحة تلك المواقع، إمكانية كسب المال والشهرة. ولم يعد «هوس الترند» محصوراً في فئة معينة وشمل الجميع.
كثير من القضايا المعروضة أمام المحاكم المحلية توضح أن مواقع التواصل، بدأت تشهد توسعاً في بعض التجاوزات غير القانونية التي تستهدف المتابعين خاصة جيل المراهقين باستغلال هوسهم بهذه التقنيات المتسارعة.
ومن بين أحدث القضايا قضية المحامية التي اختلقت قضية لزيادة متابعيها على مواقع التواصل، حيث اتخذت النيابة العامة في أبوظبي الإجراءات القانونية بحقها، لنشرها معلومات غير حقيقية، نسبتها إلى مؤسسة قضائية، باستخدام الشبكة المعلوماتية.
وبثت المحامية مقطع فيديو، عبر إحدى منصات التواصل، يتضمن الادّعاء بصدور حكم في قضية منظورة أمام المحاكم، بإدانة أب بسبب مقاضاة ابنه له بتهمة السب، على خلاف الحقيقة، وخلال التحقيقات، أقرّت بأن «القضية من وحي الخيال».
وفي قضية أخرى أيدت المحكمة الاتحادية العليا، حكماً بخفض مدة سجن 3 من مشاهير مواقع التواصل، من عامين إلى 4 أشهر، بعد إدانتهم بالترويج للمواد المخدِّرة، عبر مقطع فيديو يشرح كيفية التعاطي. وخلال جلسة محاكمتهم اعترف المتهمون بأنهم اتفقوا على إيصال رسالة إلى المجتمع عن أضرار تعاطي المخدِّرات عن طريق إعداد فيديو تثقيفي مكون من ثلاثة مشاهد متقطعة، وجهّزت الأدوات اللازمة (مسدسان، وولاعة، ورشاشان «لعبة»، وبودرة أطفال، وكاميرا) ووزّعت الأدوار بينهم، بحيث مثل المشهد المتهمان الأول والثاني، وتولى الثالث التصوير، مستخدمين جهاز «لاب توب» لإجراء المونتاج والدبلجة. أصبح «هوس الترند» والشهرة سبباً مباشراً في مشكلات وقضايا أسرية انتهى كثير منها بالطلاق، من الحالات التي نظرتها المحاكم مشكلة بين زوجين، بسبب نشاط تجاري للزوجة على مواقع التواصل، إذ شغلتها ملاحقة الأرباح المالية عن أبنائها وزوجها، ما أدى إلى طلاقهما.
المشكلة بدأت بفكرة نشاط تجاري طرحتها على زوجها، فوافق على ذلك بشرط الحفاظ على المنزل، وعدم إهمال الأبناء، ووضع الأولوية لأسرتها، لكن الوضع تغير كلياً بمرور الأيام، إذ أخلّت الزوجة باتفاقهما، وانغمست كلياً في عملها التجاري عبر الإنترنت، وإنتاج الفيديوهات التي عدّها الزوج مسيئة له، لتدبّ المشكلات في الأسرة، ويزداد الأمر تعقيداً مع رفض الزوج تقبل إهمالها لأسرتها.
وعندما وجدت نفسها بين خيارين، اختارت مصلحتها الخاصة، ورأت أن عملها وتجارتها هما الضمانة الحقيقية لها، وأن الطلاق سوف يمنحها الحرية والراحة اللازمتين للاستمرار، فطلبت الانفصال.
العقل والوجدان
قالت بخيتة الظاهري، اختصاصية اجتماعية «يمثل مشاهير التواصل، قدوة لآلاف المتابعين، خصوصاً صغار السن، إذ باتوا يؤدون دوراً مؤثراً في تشكيل عقولهم ووجدانهم، لكن للأسف كثير من هؤلاء المشاهير يشكّلون قدوة سلبية، عبر ما يظهرون به بصورة غير لائقة، أو ما ينشرونه من مقاطع فيديو تنافي الذوق العام، وسلوكيات وتصرفات غريبة على مجتمع الإمارات، ومخالفة لتقاليده وأعرافه، وما شهدناه أخيراً من نشر بعضهم محتوى فيه مخالفات أخلاقية وقانونية، يجب أن يقابل بحسم من الجهات المسؤولة».
وأضافت «المجتمع يجب أن يكون على وعي تام بما ينشره أشخاص لا يعلم مستواهم المعرفي والثقافي والتعليمي، همهم الشهرة والحصول على أكبر عدد من المشاهدين، وليس تقديم المعلومة الصحيحة المبنية عن دراسات وأبحاث وتجارب من المختصين».
وأوضحت أن بعض المشاهير لم يضعوا معايير صحيحة للاختيار والتسويق، وأصبح هاجسهم الربح المادي، بغض النظر عن الأخلاقيات والأمانة وجودة المنتج، مستغلين ثقة الناس بهم.
نشر الوعي
يتفق الكاتب عبدالله النعيمي، مع ما سبق مؤكداً أهمية نشر الوعي، بضرورة مساندة المحتوى الجيد الذي يقدم عبر مواقع التواصل، ومقاطعة المحتوى الرديء. ناصحاً المؤثرين وصنّاع المحتوى بالقراءة والسفر، والتعرف إلى ثقافات الشعوب الأخرى قبل نشر المواد التي يرغبون في نشرها.
ودعا النخب إلى الاقتراب من الواقع ومن الناس، وتقديم محتوى يسهل فهمه والتفاعل معه. مشيراً إلى أن التحدي الأول الذي تفرضه مواقع التواصل، على المجتمعات هو تأثيرها سواء في الناشئين أو الشباب وحتى الكبار، وهوس كثر بالسعي خلف «الترند»، وأن يصبح حديث الناس في أسرع وقت. محذراً من أن ترك المحتوى السلبي، من دون محاولة السيطرة عليه، سيجعله يطفو وينتشر على حساب الجيد.
وذكر أن رضاه عن المحتوى المحلي المقدم عبر المواقع لا يتعدى 30%. وعن دور النخب في تحسين المحتوى، أوضح أن مفهوم النخب نفسه بات يحتاج إلى مراجعة، بعد أن أصابته حالة من الضبابية، وتراجع حضور الكتّاب المخضرمين، ولم يعد لهم حضور قوي على الساحة، وتفوق عليهم كتّاب من الأجيال الجديدة في الحضور والمشاركة في الحراك الثقافي.
إطار ضيق
الخبير التربوي والاجتماعي محمد راشد رشود يرى أن الهوس بالمواقع، والاهتمام بالمظاهر، فتحا باب المقارنات داخل الأسرة، ما ولّد حالة من عدم الرضا لدى كثير من الزوجات. لافتاً إلى أن بعضهنّ ينظرن إلى امرأةٍ مشهورة على مواقع التواصل، وهي تسافر بمفردها من مكان إلى آخر، فيرين أنفسهن مظلومات، وقد يتمردن على وضعهنّ، ويعترضن على عدم السماح لهنّ بالسفر وحدهنّ، معتقدات أنهن سيجدن راحتهنّ في الطلاق.
وأضاف: من الضروري عدم الانخداع بالمظاهر، فما يصوره بعضهم، عبر حساباتهم يتناقض غالباً مع الواقع، وبعضهم يخرج من أجل التصوير فقط، وليس للاستمتاع برفقة الطرف الآخر. وربما يكون الهدف من الصور هو المكايدة، وإعطاء انطباع غير حقيقي بأنها وزوجها على وفاق وحب وسعادة، لكنها أمور يجب أن تظلّ في نطاق الأسرة أو تنشر في إطار ضيق.
وحذّر رشود، من تبنّي وجهات النظر التي يطرحها غير المتخصّصين من مشاهير المواقع، بما يصورونه من مقاطع فيديو في أمور الأسرة والعلاقات الزوجية، إذ يستهدف بعضها تحريض الأزواج بعضهم على بعض، بهدف حصد أكبر عدد من المشاهدات والإعجاب.
سلاح ذو حدين
قال المحامي والمستشار القانوني علي عبدالله الكعبي: إن مواقع التواصل، أصبحت سلاحاً ذا حدين، فرغم إيجابياتها، فإن سوء استخدامها والإفراط فيه يؤثران سلباً في مستخدمها، ولا سيما في حال اتباعه بعض التحديات المنتشرة في بعض هذه البرامج، اعتقاداً أنها نوع من التسلية والترفيه الحديث، إلا أنها تنطوي على أمراض نفسية وعدوانية وأضرار وخيمة. وكل المواد المستخرجة من مواقع التواصل، سواء كانت تسجيلات أو صوراً أو فيديوهات، دليل مادي له حجية ملزمة للقضاء، بعد التأكد من أصالة المحتوى بالطرائق الفنية من جهات الاختصاص، وإثبات هوية صاحبها (الجاني).
وبيّن أن القانون حارب هذه السلوكيات، عبر بند مكافحة الشائعات الذي ينصّ على أنه يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة والغرامة التي لا تقل عن 300 ألف درهم، ولا تزيد على 500 ألف درهم، أو بإحدى العقوبتين، كل من أدار أو أنشأ أو استخدم موقعاً أو حساباً على شبكة معلوماتية، بهدف ارتكاب أو تسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانوناً. مشيراً إلى أنها عقوبة رادعة لكل من تسوّل له نفسه الإخلال بأمن المجتمع.
وأضاف الكعبي «من الضروري الوعي بقوانين الدولة التي تكفل حماية الآداب العامة والعادات والتقاليد المجتمعية، وتفرض عقوبات رادعة على كل من تسوّل له نفسه المساس بهذه القيم، وإدراك تبعات الهوس بالمواقع، وعواقب الانسياق وراء التقليد الأعمى للآخرين».
الاستقرار العاطفي
فسَّر الدكتور نواف النعيمي، أخصائي نفسي، أن «المهووس بالـ«ترند» هو شخص يعشق أن يكون لديه عدد كبير من الجمهور، يشعره بالاطمئنان النفسي والعاطفي. كما أن هذه الشخصية لا تمتلك الاستقرار العاطفي. وهوس الشهرة يمكن تعريفه بأنَّه الرغبة الملحة لشخص بأن يكون معروفاً بين الآخرين، ما يؤثر في طريقة تفكيره وتعاطيه مع الأمور، ومن ثمَّ فإنَّه يؤثر في علاقته بأسرته ومحيطه وعمله، فجلّ تفكيره مركز ومنصب على حصد المزيد من الشهرة ومعرفة عدد أكبر من الناس به، وهذا يدفعه إلى تسخير أيَّة علاقة يكون طرفاً فيها لتزيد من شهرته، أو إنشاء علاقات بهدف توسيع هذه الشهرة، أو القيام بتصرفات غريبة ليُحدِثَ بلبلة تلفت الناس إليه فيعرفونه على أساسها».
وأضاف أن «هوس الشهرة يمكن تعريفه بأنَّه الرغبة الملحّة لشخص بأن يكون معروفاً بين الآخرين، ما يؤثر في طريقة تفكيره وتعاطيه مع الأمور، ومن ثمَّ فإنَّه يؤثر في علاقته بأسرته ومحيطه وعمله، فجلُّ تفكيره مركز على حصد المزيد من الشهرة ومعرفة عدد أكبر من الناس به، وهذا يدفعه إلى تسخير أيَّة علاقة يكون طرفاً فيها لتزيد شهرته، أو إنشاء علاقات بهدف توسيع هذه الشهرة، أو القيام بتصرفات غريبة ليُحدِثَ بلبلة تلفت الناس إليه فيعرفونه على أساسها».
وتابع «يمكن تقسيم أضرار ذلك الهوس شخصياً، ومجتمعياً، فشخصياً يربط المهووس قيمته لذاته بعدد المتابعين لديه أو عدد الناس الذين يعرفونه، فيفقد استحقاقه بقيمة ذاته لمجرد كونه إنساناً. أما مجتمعياً، يكون بدفع الأشخاص إلى تقديم محتوى عشوائي وغير مدروس، من أجل جذب الجماهير فقط، متجاهلين الأثر السلبي والانطباع السيئ الذي سيخلفه في نفوسهم».