عادي
قرأت لك

«معزوفة صماء»..سيرة للشجن

16:52 مساء
قراءة 4 دقائق
منى العلي
غلاف معزوفة صماء
ثمانية فصول من الشغف تختزل حياة فتاة، هذه الحياة مملوءة بأحداث شائقة كما صورتها الكاتبة منى العلي في روايتها «معزوفة صماء» - الصادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع - التي بذلت جهداً إبداعياً في تشكيل صورها ومشاهدها ببراعة وإتقان، وكأنها تقدم سيرة ذاتية ملأى بالشجن لبطلة الرواية التي تمتلك زمام البوح الحميم وهي تحاول أن تستعيد ما أصاب بصرها من تشوش، منعها من القدرة على القراءة بشكل واضح، وذلك إثر حادث غير متوقع.
تتسم الرواية بوجه عام بالتشويق، ويظهر هذا الملمح في سرد الأحداث التي ترويها العلي في إطار تشبعها بتقاليد المجتمع، فهي تبلور حالات القلق التي تنتاب البطلة وتصور إصرارها العنيد في التغلب على مأساتها بعد تعرضها لحادث سير، بأسلوب لافت في السرد وقدرة على تصور الأحداث بعذوبة وجمال ودهشة، فالراوية تتناول بعض الأسرار للبطلة التي تتكشف بسلاسة في السطور الأخيرة للرواية.
حاسة قوية
في الصفحات الأولى تبدأ العلي الرواية، بسرد رقيق وبعبارات فلسفية وهي تتحدث عن مدى تأثر الطالبة الجامعية ميرا بما أصاب بصرها من تشوش، والتي تدور كل أحداث الرواية في بؤرتها، والتي تحصد تعاطفاً كبيراً من قبل كل أفراد العائلة والمحيطين بها بعد أن تجد نفسها وحيدة تماماً ومنعزلة، وهي تبحث عن أمل الوصول إلى أحلامها القريبة، بخاصة أن ميرا البطلة تتحدث كراوية للذكريات وكأنها تقدم سيرتها الذاتية في مرحلة دقيقة من عمرها في أثناء الدراسة الجامعية، لكن كيف تعطلت إحدى حواسها بدرجة ما وبالصورة التي جعلتها تتحدث كثيراً عن عواطفها الشخصية وتبرز حجم الهزيمة النفسية التي تعرضت لها، يتضح ذلك من خلال تلك اللحظات القاتمة التي جعلتها تفقد وعيها بعد أن صدمت سياراتها مركبة من الخلف في أثناء الذهاب إلى بيت زميلتها في الجامعة من أجل الاطلاع على بعض المحاضرات التي تحتاج إليها من أجل الاستعداد لدخول الامتحان، وفي هذه اللحظة تصف ميرا نفسها بشجن شديد كيف استقبلت هذه الصدمة وكيف غاصت في أحلام بعيدة مستدعية الموت وتفاصيله، وكأنها كانت على حافة وداع العالم، وحين وجدت نفسها على إحدى أسرة مركز طبي شعرت بأن أمل النجاة لم يكن بعيداً عنها، وبعد الاستغراق في الكشف الدقيق عليها ومن ثم قرار الطبيب بعودتها إلى المنزل نظراً لتحسن حالتها تكتشف ميرا من خلال المجلة التي كانت في يد والدتها والتي أمسكت بها بدافع الفضول، أنها غير قادرة على قراءة بعض الحروف، ما جعلها تقلب الصفحات وهي تترقب مدى قدرتها على استيعاب بصرها لشكل الجمل، فتشعر بعجزها عن القراءة وفهم مغزى الجمل.
من خلال هذا الخلل المفاجئ في الرؤية تتصاعد أحداث الرواية، حيث يتدخل الأطباء ويحاولون اكتشاف الأسباب والأعراض، لكنهم يخرجون في النهاية بنتيجة أن هذه الحالة غريبة ولم تمر عليهم من قبل، وهو ما يجعل أسرتها تعود بها إلى المنزل لتواجه مصيرها الجديد، لينتقل القارئ مع هذه الأحداث إلى مشاهد بصرية أخرى، تبرز سخونة الأحداث.
بداية الرحلة
مع تتابع أحداث الرواية تنزوي ميرا في المقعد الخلفي من سيارة العائلة وهي تدعو السائق إلى الإسراع نحو منزل جدتها في إحدى القرى البعيدة، وهي تشاهد زخات المطر من النافذة وتتأمل عالمها الجديد، إذ تنشد أن ترى في هذه القرية النور، وأن عليها أن تساير كل جيران الجدة الذين تبرعوا بتقديم علاج تقليدي من أجل أن تصل إلى شئ يعيد إليها بصرها بقوته السابقة،، وفي بداية الرحلة تشعر ميرا بأن أشياء تخايلها بين اليقظة والمنام، وهي غير متحققة مما تراه، وتسأل نفسها هل ما يخايلها حقيقية أم خيالاً ؟ إلى أن تفيق من أفكارها هذه على صوت السائق مبيناً لها أن بيت الجدة أصبح قريباً بعد دخول مجال القرية، لتقرر الخروج من السيارة والمشي على قدميها إلى باب البيت، بينما يقودها السائق الذي يضع الحقائب في الداخل وهو يراقب سرعتها في اقتحام بيت الجدة حتى لا يرقبها الناس ويعرفون أنها الغريبة القادمة من المدينة، وتصف الرواية ما يجول بذهن البطلة، إذ إنه فور الإحساس بالسكينة بين أحضان الجدة تصعد إلى حجرتها التي أعدت لها، لتكتشف أن هاتفها الجوال انطفأ وأنها نسيت شاحنه داخل السيارة التي عاد بها السائق من حيث أتي. وهنا تتولد دلالة تعطي مجالاً للتأمل، إذ إن عدم قدرة هاتفها على العمل يبرز انقطاعها عن الأهل والأصدقاء وعالمها الذي اعتادت عليه، خصوصاً أن بيت الجدة يخلو من مثل هذه الشواحن، كون الجدة تعيش حياة بسيطة تتلاءم مع طبيعتها بعيداً عن أجواء المدن وحداثتها، لتعيش البطلة أحداثاً جديدة مع هذه القرية الملأى بالعجائز.
*رغبات
في أثناء مقام ميرا في بيت الجدة تجد نفسها محاطة برغبات أخرى لجيران جدتها اللواتي أظهرن رغبة محققة في مساعدتها على استعادة ما أصاب بصرها من تشوش، بالاتفاق مع الجدة ومن هنا تبدأ سلسلة مغامرات غير محسوبة ترضخ لها ميرا على امتعاض، مستسلمة لكل رفقاء الرحلة الجدد لعلها تجد ما يشفي صدرها من ألم، ويعيد إليها القدرة على القراء بشكل صحيح، فتتوالى أحداث تبرز مدى خضوعها لأعمال تقليدية في العلاج من خلال معتقدات راسخة لدى العجائز، لا تفلح في النهاية في عملية الاستشفاء.
وبمفارقة عجيبة تضع العلي مشاهد النهاية برؤية عميقة للحكاية، حيث يكون التقاء منصور العائد من الخارج والذي كان يدرس الطب بميرا عاملاً مهماً على استعادة بصرها بشكل جيد، بما لا يدع مجالاً للشك أن منصور استطاع أن يبدد وحشتها عبر مرايا أهداها لها جعلتها تستجمع الحروف والعبارات، لكن قلبها ظل نابضاً باسمه وهي معترفة بأن الطب عجز عن مدواتها، وأن حيلة صغيرة من طبيب شاب أعادتها مرة أخرى للحياة، وفور عودتها من بيت الجدة في القرية تستقبلها الأسرة على بساط البهجة، وهم لا يعلمون بموضوع شفائها فتقرر ميرا استئناف دخول امتحاناتها الجامعية وتحصد النجاح، لكنها في ذروة ذلك تعود مسرعة للقرية التي تسكنها جدتها والتي لا تزال الحياة فيها بدائية بسيطة، لتجد منصور وهو يبوح لها بشكل رمزي عن عاطفته تجاهها، لتنتهي الرواية بهذا الشكل الأثير، فالصوت الوحيد والأكثر صدى فيها وهو صوت ميرا الشابة العائدة من صدمات الحياة بقوة الحب.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2bv2b2af

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"