عادي
أثر القلب

«شطح المدينة»... حياة الزاهد رحلة

21:05 مساء
قراءة 4 دقائق
1

الشارقة - علاء الدين محمود
السفر والارتحال من أهم الطقوس والمهام التي يقبل عليها الزاهد المتبتل في محراب التجربة الروحية، سواء كان سفراً في المكان، أو الزمان، أو رحلة متخيلة، يرتاد فيها العابد أمكنة لها مكانتها ووقعها الخاص في نفسه، ويطوف في أزمنة شهدت قصصاً وحكايات مثل حكايته، وكل ذلك في سياق رحلة طويلة إلى الله تعالى، يكون زاده فيها الحب والإيمان ومخافة رب العالمين، فهدف الصوفي هو طاعة ربه، لذلك هو في سفر وبحث دائم ومستمر عن حقائق الأشياء، وتحدثنا كتب التاريخ عن أسفار ورحلات للكثير من المتصوفة جاءت حافلة بالمشاهد والرؤى.
ولا شك في أن المكان له دلالاته ورمزيته الخاصة في الأدب الروحي، وقد اهتم كثير الأدباء الذين نهلوا من المعين الصوفي وغرفوا من مصطلحاته، بالأمكنة، ومن هؤلاء يبرز الروائي المصري جمال الغيطاني الذي اهتم بمنح المكان دلالات مختلفة، وأبعاداً روحية عميقة، فهو من الذين عملوا على استنطاقه من أجل البوح بأسراره، ويبدو ذلك الأمر واضحاً في روايته «شطح المدينة»، ذلك السفر الملحمي المميز المحتشد بالرموز والإشارات والحكايات الغرائبية، والأسرار العجائبية.
* أسرار المدينة
تتحدث الرواية عن مسافر يقوم برحلة لمدينة مجهولة، لأول مرة، من أجل حضور مؤتمر، لكن شيئاً ما غريباً فيها يثير هواجسه وقلقه، فتبدأ قصته مع هذه المدينة، حيث يتابع القارئ الوصف المبدع للمدينة وتفاصيلها من حيث المعمار والتاريخ والأزياء والتقاليد والعادات، بصورة تخلق لدى القارئ مشاهد بصرية خلاقة وجاذبة، والمسافر لا يترك شاردة ولا واردة من غرائب وخرافات متعلقة بالمدينة، إلا وقد ضمنها في وصفه البارع، إلى هنا وكل شيء عادي في رحلة ذلك المسافر، لكن شيئاً فشيئاً، ومع تتابع الأحداث، يتخذ الوصف طابعاً أسطورياً غرائبياً، فشوارع المدينة تضيق وتتسع، وتتغير ملامح المباني بين زيارة وأخرى، وحتى البشر الذين يتجولون في أنحائها، يظهرون ويختفون بطريقة غريبة. شيء ما يبدو مختلفاً، كأن المدينة بكل ما فيها ليست سوى انعكاس لواقع داخليِ، محتشد بالذكريات المختلطة، والمشاعر المضطربة، والهوية الممزقة بين أجزائها ومكوناتها، وذلك الانقلاب الذي حدث في وصف المدينة، من البداية العادية إلى النهاية الغرائبية، يعبر عن المشاعر المتناقضة لبطل القصة منذ دخوله للمدينة حيث كان يشعر بالخوف، والقلق، والحيرة، والغربة بعيداً عن موطنه.
* صراع
ومع مرور الأحداث، تتعمق الرواية في وصف الصراع الدائم داخل تلك المدينة، بين مكونين، ثقافي وسياسي، وهما الجامعة والمدينة، حيث ينشأ اختلاف بين أيهما أسبق، هل نشأت المدينة أولاً ثم تلتها الجامعة، أم أن الجامعة كانت هي السابقة؟ وهذا الصراع الظاهري يخفي في أعماقه إشارات ورموزاً، حيث إن الجامعة تشير للعقل، بينما المدينة للروح، والرواية حافلة بإبراز مثل تلك المتناقضات والثنائيات، في سياق مشابه تماماً لذلك الذي نجده عند كبار الصوفيين من أمثال أبي يزيد البسطامي، وعبد القادر الجيلاني، والحسن البصري، وغيرهم.

1

* حلم
 تفاصيل الرواية وأحداثها تبدو أقرب إلى الحلم، شيء بين اليقظة والصحو، حيث يختلط المتخيل بالواقع، حيث الأحداث غريبة، وكذلك الشخوص أنفسهم، كأنها تشير إلى توتر السارد، أو الراوي نفسه، وكأن قلقه وحيرته قد تحوّلا إلى ما يشبه الهلوسة البصرية والسمعية، لكن قوة السرد وجمال الوصف ودقته، تجعلك تشعر كأنك في عالم حقيقي، وفي مدينة لها مكان في خريطة الواقع، وهنا تكمن فرادة وعبقرية الكاتب الذي استطاع أن يوظف ما هو مختلف وغريب على تقنيات السرد، من خلال الاستعانة بالقاموس الصوفي على مستوى اللغة والرموز، ورسم الصور، وتشكيل المشاهد.
 
* تجليات السالك
الرحلة التي يقوم بها ذلك المسافر، هي مطابقة تماماً لتلك الأسفار التي يقوم بها الزاهدون السالكون من أجل البحث عن الحقائق والأنوار والإشراقات، حيث تصبح الأشياء ليست هي الأشياء، فليست العين هي التي تبصر؛ بل البصيرة، والسارد في الرواية يحاول أن يجعل وصفه وعباراته قادرة على الإحاطة بالرؤية في اتساعها الممتد، وغالباً ما يكون سفراً يأخذ من الخيال والواقع، وهذا يبدو واضحاً من خلال المواقف الغريبة والعجيبة التي تعرض لها الراوي في رحلته تلك، ومن الملاحظ أن الرواية تستعين بالقاموس الصوفي نفسه في الوصف من كلمات وإشارات ورموز ومعان.
 * رحلة ابن عربي
من يطالع الرواية يلاحظ ذلك الأثر والحضور الكبير لشخصيات صوفية كبيرة مثل ابن عربي، خاصة في مؤلفيه الشهيرين «الفتوحات المكية»، و«التجليات»، وهو كذلك عبارة عن تفاصيل رحلة متخيلة قام بها الصوفي المعروف، لكن الغيطاني، وإن استلهم فضاءات ابن عربي، فقد أبدع في رسم تفاصيل رحلة خاصة به من خلال الرواية مستمدة من تجربة روحية من دون الاستغراق في الشطح، فرحلة الراوي في «شطح المدينة»، هدفت إلى نقد روح العصر الراهن، عبر محاكاة بديعة ومختلفة لأسفار الصوفيين، فقد تعامل الغيطاني مع ذلك التراث العربي الإسلامي بصورة تخدم اللحظة الراهنة، وذلك ما أكده الكاتب نفسه عندما أوضح أن رواية «شطح المدينة»، من أهم المؤلفات التي كتبها، والتي شكلت منعطفاً في مسيرته الإبداعية.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"