عادي

الأحاسيس ضد البرمجة

23:46 مساء
قراءة 7 دقائق
2201

استطلاع: نجاة الفارس

هل التكنولوجيا حالة سردية تخاصم الشعر؟ وإذا كان هناك من يقول إن بإمكانية الحاسوب كتابة رواية أو قصة قصيرة فهل يصح هذا الأمر في الشعر؟ يؤكد عدد من الشعراء والكتاب أن تحول التكنولوجيا الرقمية إلى وسيلة لإنتاج الشعر وإبداعه هو ضد طبيعة الشعر، لأنه إبداع ناتج عن نفس رقيقة، وهو حالة فنية مختلفة، فالشعراء أدرى بأحاسيسهم العميقة، ولهم طقوسهم الخاصة، والشعر حالة حسية خالصة، ليس لها قواعد ثابتة، لذا يبقى الشعر متفرداً بين سائر الأجناس الأدبية.

إن ملكة كتابة الشعر ليست بالأمر اليسير الذي يمكن لجهاز ما مهما بلغت نسبة التطور فيه أن يقوم بما حباه الله لعباده، و مهما امتلكت التكنولوجيا الرقمية من مهارات برمجية للمحاكاة والمعالجة والتصنيف تمتلك من خلالها المخزون اللغوي والأسلوبي والفني والتصويري إلا أننا أمام عناصر يصعب برمجتها كالعاطفة والوجدان والخط الانفعالي والتأثر اللحظي وغيرها.

تمييز ضروري

الدكتور شعبان بدير، ناقد وأكاديمي، يقول: «بداية لابد أن نفرق بين كون التكنولوجيا أداة لنشر الشعر، وكونها وسيلة لإنتاجه وإبداعه، فقد أسهمت التكنولوجيا في تقريب الشعر إلى كافة المستويات والأطياف الثقافية، وجعلته في متناول أيديهم للقراءة والاطلاع في المكتبات الإلكترونية أو المواقع الثقافية مما أسهم في نشر الشعر والارتقاء بالذائقة الجمالية، إضافة إلى أن القصيدة الرقمية أوجدت نوعاً من القراء غيرت في حصيلة مرجعياتهم اللغوية والأدبية والمعرفية، ما أدى إلى نشأة فئة من القراء العصريين الذين يحملون وعياً جمالياً جديداً، كذلك ساعدت التكنولوجيا الشعراء على نشر إنتاجهم، ليصل إلى أكبر شريحة ممكنة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي؛ بل إن هناك من الشعراء من أسسوا موسوعات ومدونات أدبية، يعلنون عبرها عن الجديد من إنتاجهم وإنتاج غيرهم من الشعراء، فأسهم في وصول الشعر إلى أكبر شريحة من المتفاعلين مما يحفز الشعراء ويساعدهم على الانتشار وخصوصاً بين تلك الشرائح التي لم يكن الكتاب في مجالات اهتمامهم مما يخلق مناخاً من التفاعل والنقاش المثمر والحوارات الخلاقة حول الشعر والنقد فيرفع من مستوى الفكر وصدق العاطفة وألوان الخيال».

حالة خاصة

الشاعر ناصر البكر الزعابي، يقول: «هناك فارق كبير بين الكتابة والطباعة، لا بد للكاتب أن يختار مساحة خالية قبل أن يشرع في تنفيذ مشروعه الأدبي، ولا بأس من استخدام الوسائل الحديثة، اختصاراً للوقت، ومن الممكن أيضاً أن تكتب القصة أو الرواية عبر الحاسب الآلي، إلا أن الشعر حالة خاصة، له طقوسه المختلفة عن بقية الألوان الأدبية لأن له أكثر من أسلوب ومناسبة، إلا أنه تأثّر أيضاً بالتطور التكنولوجي، فابتعد بعض الشعراء عن الورقة والقلم، واختاروا الكتابة في الهواتف الذكية عبر برامج حديثة تشبه الأسلوب اليدوي، إلا أن الفارق الجوهري بين الشعر وأنواع الكتابة الإبداعية الأخرى أنه يمر بمراحل متعددة ومخاضات كثيرة قبل أن تكون النسخة النهائية عن طريق الحاسب، لقد فرضت التكنولوجيا نفسها في عصرنا الراهن إلا أن رونق الكتابة بالأسلوب التقليدي له سحره الخاص وعبقه الأصيل، ومن الممكن أيضاً أن نستخدم الطريقتين حسب الحاجة والظروف المحيطة، غير أنني لا أجد ضرراً من استخدام كل جديد ومفيد من شأنه أن يسهم في تسهيل عملية الكتابة، مع تحفظي الشديد ورفضي التام لبعض التطبيقات التي تمارس دور (المدقق اللغوي) فهي تقتل روح الإبداع، وتحوّله إلى سلعةٍ رخيصة، لذا فلا غضاضة من تطويع التكنولوجيا لصالح الإبداع وليس العكس، لكن الشعر حالة خاصة، ليس لها قواعد ثابتة، لذا يبقى متفرّداً بين سائر الأجناس الأدبية».

ملكة الكتابة

الكاتبة إيمان الهاشمي، تقول: «نحن نعيش في عصر التكنولوجيا وهذا أمر جميل ولا أرى حالة خصام بينها وبين الشعر في نواحي كثيرة، كالتسجيل الصوتي أو طباعة القصيدة أو إضافة الموسيقى أو حتى البحث عن الأخطاء اللغوية وغيرها، لكن أن يحل الحاسوب محل الإنسان في التعبير عن المشاعر والأحاسيس والقدرة الإبداعية والموهبة، فهذا أمر محال وغير منطقي في المقام الأول، ببساطة لأن الإنسان صنع التكنولوجيا وابتكر الوسائل التي تسهل عليه أمور حياته وتزيد من إبداعه لا أن تحل محله وتشعر عوضاً عنه؛ بل وتعبر عمّا يجول في خاطره، إن ملكة الكتابة ليست بالأمر اليسير الذي يمكن لجهاز ما مهما بلغت نسبة تطوره، كما أن وحي الشعر ليس بمخلوق حقيقي يرى بالعين المجردة كي نستطيع كبشر صناعته من الأساس».

لمسة على الشاشة

الشاعرة غالية حافظ، تقول: «كانت ولا تزال الكتابة بين الأنسنة و الرقمنة محوراً تحيط به الآراء المتناقضة في حقيقته وجوهره، فمنذ ظهور الآلة ومجتمع الذكاء الاصطناعي تهافت الأدباء والفلاسفة على جعلها وقوداً للنتاج الأدبي محتوى وموضوعاً، ومن ذلك نستنتج أن هذا الوافد الجديد سرعان ما فرض علاقة وثيقة مع الأدب كونه معطى اجتماعياً جديداً لا بد من تناوله بحثاً ودراسة وتأثراً وتأثيراً ليتحول بعدها إلى خزان معرفي وجسر يربط المبدع بالمتلقي، حاملاً النتاج الأدبي بأسهل الطرق وأقل التكاليف وهكذا عاش بيننا أداة للفعل الثقافي تارة ووعاء لها تارة أخرى، فلا شك أن الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية الرقمية سهلت من عمليتي الكتابة والقراءة وقد أصبحت بلمسة على الشاشة تستطيع تحميل ما يحلو لك من الكتب، لكننا اليوم أمام واقع جديد للعلاقة الرابطة بين العالم الرقمي والإبداع الأدبي وهو قدرة التكنولوجيا على الإنتاج الشعري بعد أن تمكنت من كتابة السرد الروائي والقصصي إن صح التعبير، ويمكن القول إن الإنتاج الأدبي ككل يعتمد على عناصر جمة يصعب حصرها، وقدرة التكنولوجيا الرقمية على هذا الإنتاج متوقفة على تمكنها من هذه العناصر وهكذا فنحن أمام قصيدة روبوتية محتملة مع صعوبة ذلك الأمر في الوقت الراهن على الأقل، فمهما امتلكت التكنولوجيا الرقمية من مهارات برمجية للمحاكاة والمعالجة والتصنيف، إلا أننا أمام عناصر يصعب برمجتها كالعاطفة والوجدان».

مخاض

الشاعر الدكتور طلال الجنيبي، يقول: «إذا أردنا أن ننظر إلى مصطلح الشعر كونه اشتقاق من الشعور فإننا سندخل في جدل كبير، فالشعور أمر لا يتأتى للتكنولوجيا بأي حال من الأحوال، فإذا كان الكمبيوتر أو أي أداة من صنع الإنسان قادرة على الإتيان بمنتج ابتكاري، فإن الشعر سيبقى عصياً على هذه الآلات والأدوات؛ حيث إن الكمبيوتر لن يقدر أن يلامس منطقة الشعور المحض الذي ينتج عنه الشعر، فالشعر هو تفريغ لمحتوى إنساني تراكمي يقع في داخل روح المبدع وفي وجدانه وفكره ويترجمه من خلال رؤية معينة، فالمسألة لا تخضع لمعادلة أو قاعدة معينة ينتج من خلالها هذا الشكل الإبداعي، وإنما هو مخاض تختلط فيه الكثير من المعطيات حتى يظهر بشكله النهائي، لذلك إذا أردنا أن نقول إن الشعر هو منتج ممكن أن يظهر من آله أو كمبيوتر أو أي من الوسائط، فإن المسألة ستكون بعيدة كل البعد عن الشعر الحقيقي، قد يكون هناك منتج معين خال من روح الشعر الحقيقي، لكن أن يكتب الكمبيوتر شعراً حقيقياً أقول إن هذا الأمر صعب وغير ممكن، فالشعر هو منتج إبداعي يلزم أن ينتج من اختلاجات تجارب، وتراكم رؤى ومن إحساس معين لا يتأتى للآله وإنما هو حق حصري للبشر، وهبه الله عز وجل لبعض من عباده حتى يستطيعون تحقيق هذا الزخم وهذه الرؤية وترجمة الفكرة من خلال صياغة لغوية معينة تظهر بشكل القصيدة، الشعر أكبر من أن يكون محدداً بأطر، وأكبر من أن يكون ترجمة بآلية معينة، قد تستطيع الآلة أن تنتج شكلاً معيناً يتحقق فيه مبنى الشعر، لكن محال أن تكون روح الشعر حاضرة في أي رؤية يغيب عنها الإنسان بتجاربه وخلاصة عصارته ومخزون ما يعتمل ويخزن في اللاوعي حتى يخرج بشكله الذي يستحق أن يقال عنه شعر.

ضد الطبيعة

يقول الدكتور شعبان بدير: «أما أن تتحول التكنولوجيا الرقمية إلى وسيلة لإنتاج الشعر وإبداعه؛ فهذا من وجهة نظري ضد طبيعة الشعر، فهو إبداع ناتج عن نفس رقيقة ذات خيال رحب وموهبة متدفقة وروح تحلق بأجنحتها في عالم من الجمال، وهذا ما تفتقده الآلة الجامدة التي هي في النهاية من اختراع الإنسان المبدع ومدخلاتها من بنات أفكاره».

ألعاب «الليجو»

تقول الشاعرة لميس فضلون: علّ الفكرة الأشد رعباً لدى أي فنان أو أديب فيما يخص مستقبل الذكاء الاصطناعي، هي إمكانية هيمنة التكنولوجيا الذكية ذات يوم على مجال الفنون والكتابة الإبداعية، ففي وقت تتطور فيه التقنيات كبهلوان يختار القفز عوضاً عن السير بروية، يبدو أن اليوم الذي نقرأ فيه شعراً من إبداع الحاسوب ليس ببعيد أبداً، في وقتنا الحاضر، تمتلئ شبكة الإنترنت بالبرامج والمواقع الإلكترونية التي وضعت للمساعدة على كتابة الأعمال السردية وبعضها قد أثبت فاعليته إلى حد كبير حتى الآن، وبعضها امتد بعيداً عن السرد ليطال بأطراف أصابعه عالم الشعر؛ إذ تم إنشاؤه للمساعدة على تحليل الأبيات وضبط أوزانها وإمداد الكاتب باقتراحات مختلفة لإتمام ما يود كتابته، تتباين فاعلية هذه البرامج في الحقيقة، لكنّ وجودها ينبئ بإمكانية تطورها لما هو أعظم من ذلك بلا شك.

 إن اليوم الذي يكتب فيه الحاسوب شعراً لا يبدو بعيداً عن عيني كشاعرة من هذا الجيل، لكنّ السؤال الذي أود طرحه في هذا السياق هو: «أي نوع من الشعر قد يكون الحاسوب قادراً على مجاراته؟ وأي صنف من الشعراء قد تزيحهم يد التكنولوجيا عن الساحة الأدبية في المستقبل؟ ها هو عالمنا مملوء اليوم بالأدباء الذين يبنون أشعارهم على نظام التخطيط لا الشعور؛ إذ يختار الواحد منهم كلمات رنانة يودّ زجّها في النص كي يكسب تصفيق الجمهور، ثم يختار قافية ويبحث في جوجل عن كلمات تشابه بعضها في الوزن وفي اللفظ، ثم يركب القطع المفككة مع بعضها البعض كقطع من ألعاب «الليجو»، كي يحصل في الأخير على نص شعري، قد يكون هذا النص مشوهاً وفارغاً وتتنافى أفكاره مع كل مبادئ الكاتب، لكنه يبقى نصاً كاملاً موزوناً وذا رنة لدى المستمع، فلا يكون أمامنا من مهرب سوى أن نطلق عليه مسمى نص شعري. 

 يمكننا إذاً أن نتخيل الحاسوب، وهو القادر على البحث في جميع القواميس وتلقي المفردات كلها من البشر، أن ينشئ نصاً شعرياً مماثلاً إن تمت برمجته بلوغاريتمية مطوّرة تساعده على تنظيم المعنى الشعري بعض الشيء، في كلا الحالتين، يكون النتاج نصاً شعرياً فارغاً من الشعور الحقيقي، فإن كان الشعور الآدمي ليس أساساً في النص الذي كتبه الأديب البشري، ما الذي قد يمنع الحاسوب من المنافسة بقوة؟ أما في الجهة المقابلة، إن كان الشعور والتجربة البشرية أساسين في بناء النص كما نرى في نصوص الشعراء العظماء ممن خلّد شعرهم التاريخ ولا يزال، فلا شك أن التكنولوجيا تسقط هنا صريعة الخيبة، يمكننا هنا أن نتخيل كيف أن التقنيات الذكية قد تكون قادرة ذات يوم على المساهمة في تصفية الأدباء لنستطيع التمييز جيداً بين شعراء المشاعر والتجربة الإنسانية، وشعراء «هذا ما أملته عليّ القافية»؛ إذ إن الطرف الآخر ستتعبه منافسة الحاسوب بلا شك، وقد يلوّح مغادراً عالم الأدب برمته..

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"