عادي

شهادة شبنجلر عن انهيار حضارة الغرب

22:56 مساء
قراءة 3 دقائق
2403

القاهرة: «الخليج»

بلغ التقدير لكتاب «تدهور الحضارة الغربية» حداً، صنف معه كأعظم مؤلف صدر في النصف الأول من القرن العشرين، فهو كتاب يعالج جميع موضوعات الحضارات الإنسانية وإنجازاتها، من فن وعلم وفلسفة ومذاهب وأديان، فمؤلفه شبنجلر يرى أن كل حضارة من الحضارات هي كل متكامل غير قابل للتجزئة وظاهرة أولية متفردة، وذلك لأن لكل حضارة نفساً أولية واحدة، وتعبر برموزها عن نوازعها وطاقاتها، وهذا الرمز هو الذي يسيطر ويوجه جميع نتاج الحضارة من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وعلم وفلسفة ومذاهب وأديان.

لهذا يجد القارئ أن شبنجلر يستشهد بالموسيقى وهو يبحث في الرياضيات، ويدلل على صحة أقواله بالدين وهو يتحدث عن النحت والتصوير، ويقتبس براهينه من الطقوس المذهبية أو الدينية، ليثبت نظرياته في الهندسة المعمارية، ويختار دليله من الرقم الرياضي، ليبرهن على صحة نظريته في الجنس، لهذا فإن القارئ سيذهل لوفرة معلومات شبنجلر الموسوعية، وسيعجب بمنطقه ودقة ملاحظاته.

يبدو أن الطريقة المثلى لفهم إحدى الفلسفات، إنما تتمثل في فهم شخصية فيلسوفها، وروحانيته التي انبجست عنها تلك الفلسفة، ولا شك أن شبنجلر له فلسفة جديدة في فهمه لتطور التاريخ البشري وللحضارات البشرية التي تشكل هذا التاريخ، وفلسفة شبنجلر تشاؤمية، وهذا ناشئ من إيمانه العميق بالطبقية في المجتمع وقناعته بأن النبلاء وحدهم هم الطبقة التي تمثل الأمة حق تمثيل في المجتمع، وبقية الطبقات لا تمثلها على الإطلاق.

يشن شبنجلر حملة شعواء على كل ما هو حسي ويكره العقل، لأنه يدخل الأشياء الغامضة في ميدان الحواس، ويناهض الرياضيات والفيزياء والكيمياء، لأنها تتعامل مع الحواس حتى في فرضياتها، حيث يرى أن الحضارة تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، وتنفصل هذه الروح الأولية للطفولة الإنسانية الأبدية، كما تنفصل الصورة عما ليس له صورة، وكما ينبثق المحدود من اللامحدود، ويرى أن الحضارة تولد وتنمو في تربة بيئية يمكن تحديدها تحديداً دقيقاً وأن الحضارة ككل كائن لها طفولتها وشبابها ونضوجها وشيخوختها، وأنها تموت عندما تحقق روحها جميع إمكاناتها الباطنية على هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية وفنون وعلوم ودول، وأن الحضارة عندما تحقق هذه الأمور وتستنزف إمكانات روحها في تجسيد هذه الإنجازات تتخشب وتتحول إلى مدنية.

يرى شبنجلر أن لكل حضارة صيرورة واتجاهاً وزماناً ومصيراً وتاريخاً، وأن الحضارة أسيرة مصيرها، ويرى أن لكل حضارة تاريخاً، ولا يمكن أن تكون هناك حضارتان متماثلتان لأن كل حضارة هي تاريخ مستقل بذاته لا يتأثر أبداً بتاريخ أية حضارة أخرى، فالحضارة تولد وهي تحمل صورة وجودها، وهي على صلة رمزية عميقة، صلة تكاد تكون صوفية، بالمكان، الذي بواسطته تريد أن تحقق وجودها وهي تصارع وتناضل داخل المكان الذي اختاره لها مصيرها.

يشن شبنجلر حملة شعواء على الحضارة الكلاسيكية من يونانية ورومانية، فهو يرى أن هذه الحضارة حضارة حسية، ودولتهم كانت دولة المدينة، التي يكرهها شبنجلر أساساً، دولة لا تتعدى في سياستها أسوار المدينة التي تحيط بها، فلم يكن الإغريق يعرفون سياسة المسؤولية الوزارية، ولم يكونوا يعملون بدبلوماسية مجلس الوزراء المعروفة حالياً في الغرب، حتى معابدهم كان يفرضها الظرف والمكان، وفي مقابل هذا كان شبنجلر يؤمن بأن فكرة الأمة عند العرب تقوم على أساس الروابط الروحية المجردة، وإذا كان هناك من فيلسوف أعجب بالأمة العربية إعجاباً يكاد يكون بلا تحفظ، فإنما هو شبنجلر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"