عادي

الحاضر في روايات نجيب محفوظ لا يبدأ بكلمة وينتهي بأخرى

22:36 مساء
قراءة دقيقتين
7

القاهرة: «الخليج»

أصدرت دار الشروق للناقد الراحل إبراهيم فتحي (1931 – 2019)، طبعة جديدة من كتابه «نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية»، وفيه يكشف أن السمة المميزة لعالم نجيب محفوظ الروائي والقصصي هي العكوف على اكتشاف الحاضر اكتشافاً فنياً، وليس الحاضر هو الواقع الخارجي الماثل هناك في تحديد نهائي، بل هو معاصرة متدفقة متحولة في تلقائية فورية لا تعرف اكتمالاً، ويتطلب هذا الحاضر استمراراً في حركته نحو مستقبل لا يعرف تعيناً.

وفي عالم محفوظ نجد أن الحاضر لا يبدأ من كلمة أولى ولا ينتهي بكلمة أخيرة، فهو صيرورة لا تنقطع ولا تسير في خط مستقيم، لأنها متناقضة متعددة الاتجاهات حافلة بإمكانات لا تتجسد ولا تتحقق ومسارات غير متوقعة، وبذلك يفقد كل معطى من معطيات الواقع طابعه الجاهز في غمرة تدفق الحياة الجارية، وتنقل صورة الشخصية الإنسانية إلى منطقة الاتصال المباشر والتلامس الحميم مع صيرورة محيرة، ولن نجد مسافة تراتبية رمزية بين قيم المؤلف وقيم العالم الممثل، بل سنجد لغة المؤلف مختلطة النبرات بلغة الشخصيات.

وماذا عن الروايات والقصص التاريخية القديمة والجديدة؟ هكذا يسأل إبراهيم فتحي ويجيب بأنها لا تقدم الوقائع التاريخية والشخصيات التاريخية لذاتها، بل لأن اختيار فترات معينة مكن محفوظ من خلق تجربة إنسانية متخيلة، استمد خيوطها ونسيجها من حاضر معاصر عاشه المصريون في زمن الكتابة، لقد هيأت المسافة التاريخية استيعاباً درامياً لتلك التجربة المتخيلة وإبرازاً لما في نماذجها من دلالة راهنة، إنها تعبر عن حلم فوق حاضر كتابتها، وهو الحلم بإمكان استعادة رموز المجد التليد.

يوضح فتحي أن نجيب محفوظ أسقط أوجهاً للواقع المصري الحديث على موضوعات الماضي وشخوصه، كان الحاضر المعاصر هو الذي يقدم وجهة النظر، كما كان العالم المصور والمؤلف والقراء خاضعين جميعاً لمقاييس قيم واحدة مستمدة من منطق الأحداث، لذلك نجد هوة فاغرة الفم بين الأعمال التي تسمى تاريخية والروايات التي تسمى واقعية، وإن وجدت ثغرات بينها.

انعكاس المسار

ويرى فتحي أن الروايات الواقعية المبكرة صورت حركة مصر ذات الاستقلال الشكلي التي يحتلها الإنجليز ويحكمها ملوك وباشوات، إلى مصر الأخرى التي ظلت وعداً عند المثقفين، كما صورت الروايات ذات التطلعات الفكرية مصر بعد ثورة 1952 وأمنياتها المعلنة وانتصاراتها وهزائمها وإنجازاتها وإخفاقاتها وأسئلتها عن المصير والآفاق، وواصل الحاضر تحولاته في الروايات والقصص اللاحقة بعد عام 1970 الانفتاح وانعكاس المسار وظهور أشكال جديدة من الصراع الفكري والسياسي. لكن الحاضر لم يصور قط باعتباره خطاً مفرداً يؤدي إلى مستقبل محدد، بل ظل يصور باعتباره تعدداً من الطرق الممكنة المأمولة أو المرفوضة، قد لا تطأ بعضها الأقدام ما يجعل من المستقبل أفقاً مفتوحاً، ولكن حاضر محفوظ لا يقف عند تصوير الخلفية الواقعية في دقة شبه علمية، ولا يحتفي بمسار الحياة اليومية في عاديتها البادية للعيان فحسب، فهو يصور تحت السطح المعتاد مستعيناً بالخيال والذهن والأشكال الفنية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"