عادي
أحد أقطاب المدرسة التكعيبية

«منازل في استاك» لبراك.. ثورة في التعبير الفني

00:03 صباحا
قراءة 4 دقائق
جورج براك - اللوحة

الشارقة: علاء الدين محمود

بعض الرسامين الكبار تكمن أهميتهم في كونهم قاموا بفتوحات كبيرة في مجال الفنون، وأسسوا مدارس واتجاهات كانت بمثابة منعطف عظيم في مسار تاريخ الرسم والتشكيل، وهناك من لم يشتهر اسمه ولكن بقي الاتجاه الذي رسمه شاهداً على عبقريته ودوره البارز في إثراء الحراك الإبداعي، ومن هذه الأسماء الكبيرة يبرز الفرنسي جورج براك «1882 1963»،

تكمن أهمية هذا الفنان في كونه أبرز مؤسسي ورواد المدرسة التكعيبية، إلى جانب بيكاسو، وواحد من رموز الفن في القرن العشرين ومن المؤثرين فيه، بل إن الحركة التكعيبية ظهرت مع رسومات براك الذي اشتهرت بالتميز والتجديد في الأسلوب و طريقة اختيار الدرجات اللونية، حيث كان تركيزه في عمله ولوحاته على الواقعية وضوء الشمس والطبيعة، وكان أسلوبه دائم التحول والتغير وفقاً لحالته النفسية التي يعيشها، وعلى الرغم من ذلك كانت التكعيبية التي قام بتأليفها هي بيته الفني الأول الذي دوماً ما يعود إليه؛ حيث كانت الألوان الواضحة، الخطوط المستقيمة والمربعات، دوماً موجودة بلوحاته؛ بل إن الأسلوب التكعيبي كان دائم الظهور في كل لوحة يرسمها وفي أيَّة فترة عمل بها، أو أي أسلوب اتبعه.

ابتكار

كما ينسب إلي براك، إلى جانب صديقه بيكاسو، إدخال الخامات المختلفة في اللوحات المسطحة وأدوات جديدة في فن اللوحات لم تكن مستخدمة أو متعارف عليها من قبل مثل: «الخيوط، الرمل، قشر البطاطس، القهوة المطحونة، أجنحة الفراشة، بتلات الزهور، اللحاء، الأوراق، أجزاء من اللوحات والرسومات، قماش القنب الملون والخام، جميع أنواع الأقمشة المنسوجة غير الشفافة، والشفافة أيضاً، البطاقات البريدية، المناديل الورقية، الأوراق الزخرفية، ورق الجدران، الصحف والمجلات، وغيرها»، كما ينسب إلى كل من الفنانين الكبيرين تعريف فن «الكولاج»، وأنواعه، وفي الواقع فإن رسومات براك لم تكن كثيرة أثناء الحركة التكعيبية، ولكن كانت ذات دور لتغير كافة أساليب أعماله الفنية بالمستقبل، وكانت بمثابة نهاية اتباعه للحركة الوحشية، لكنه استمر في ادخال المناظر الطبيعية بلوحاته في الفترة التكعيبية.

منعطف

تكتسب لوحة براك «منازل في استاك»، التي رسمها عام 1908، أهمية خاصة، فهي بمثابة إعلان لمغادرة المدرسة الانطباعية في الفن، نحو اتجاه جديد أكثر ثورية وهو الذي صار يعرف بالتكعيبية والذي وجد رواجاً ودوياً هائلاً في أوروبا، وهي من أهم أعمال الفنان التي ركزت على الهندسة والأساليب التقنية التي يعتمد عليها الرسامون لإظهار هذه الآثار، مثل رسوماته لمناظر في قريته التي قلل فيها من المباني المعمارية مستبدلاً إياها بأشكال هندسية مكعبة، وفي الوقت ذاته مثل الظلال لكي تظهر وكأنها أشكال ثلاثية الأبعاد ومسطحة في نفس الوقت عن طريق تكسير الصورة، وهو الأسلوب الذي يظهر واضحاً في «منازل في استاك»، حيث جذب الانتباه إلى طبيعة التوهم البصري والتصوير الفني، كما أن اللوحة تعبر عن رغبة براك الملحة في اكتشاف الجمال بواسطة الحجم والخط والكتلة والوزن، وهي العملية التي تتيح للفنان إظهار انطباعه الشخصي، لذلك عمل براك خلال تلك الفترة على تبني الألوان الأحادية والمحايدة لاعتقاده بأنها تعمل بانسيابية مع الشكل، عوضاً عن تدخلها في إدراك المشاهد للمساحة، كما أن اللوحة تنتمي إلى الطبيعة الصامتة وهي المجال الإبداعي الذي لجأ إليه براك وبرع فيه كثيراً، حيث أن رسم «الحياة الصامتة»، يستجيب لرغبة الفنان الشديدة في لمس الأشياء وليس فقط رؤيتها.

وصف

لوحة «منازل في استاك»، هي التي أنتجت اسم التكعيبية حيث تميزت بضربات الفرشاة الموّحدة وتطبيق الطلاء السميك، وتبدو المباني الرميلية المنخفضة الزاوية في اللوحة بلون مسطح على القماش، وذلك بفضل التوظيف الماهر للضوء، كما أن فروع وأوراق الأشجار في الزوايا العلوية من الصورة تبدو كبيرة الحجم وهندسية الشكل، وهي منسجمة مع المنازل المتراكمة، وتذهب إلى مكان ما في المسافة، خارج حدود الصورة، الأمر الذي يمنح العمل ألقاً وواقعية، حيث أن اللوحة مليئة بالأفكار الجديدة، فالفنان ابتكر المشهد وراء المشهد، وشحذ مهاراته، في صناعة مصفوفة متوازية من المنازل، ولعل روعة المكان نفسه ساهمت في جمال اللوحة، وهو ميناء مدينة مرسيليا «استاك»، الذي يكن له الرسامون عشقاً خاصاً، كونه يتميز بالروعة والهدوء ويشعر بالسكينة والسلام ويتمتع بجمال خلاب ولافت للنظر، ولعل أكثر ما لفت نظر الفنان في المشهد هو المربعات والمستطيلات التي شكلت قوام المبنى، فكان هو الأنسب للتعبير عن الأفكار التكعيبية التي رسخت في ذهن براك.

رفض

قضى براك فترة الصيف في عام 1908، في «استاك»، وقام برسم العديد من الأعمال، بلغت 6 لوحات، بأسلوب التكعيبية، ورغم ذلك فإن الجمهور الذي لم تعتد ذائقته على تلك الأشكال الهندسية، لم يتقبل تلك اللوحات مثل كل شيء عبقري جديد وفريد، فقام براك بوضع لوحاته تلك في معرض شخصي، من أجل تهيئة الجمهور للتأمل، الأمر الذي نجح بالفعل، فلقيت اللوحات صدى كبيراً ومدوياً، لتصبح ذات أثر جذري في تاريخ الفنون.

استراحة

تعرض براك لإصابة بالغة خلال الحرب العالمية، وخلال فترة شفائه تعرف إلى الفنان الكوبي جوان غريس، وعندما عاود نشاطه الفني في 1917، أصبحت أعماله تبتعد عن حدة التجريدية التكعيبية، حيث طور أسلوباً خاصاً به يتميز بالألوان المتألقة الفاتحة والأسطح المركبة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"