عادي

«أسرار المحبة».. فيوض تغمر القلب

01:18 صباحا
قراءة 4 دقائق
لوحة للخطاط عباس البغدادي

الشارقة: علاء الدين محمود
تلك الكلمات التي تشع نوراً وإشراقاً، هي للعلامة الكبير ثوبان بن إبراهيم، «796م 859 م»، المكنى ب«أبو الفيض»، والملقب ب«ذو النون»، أحد أكبر أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري، وتلك القصة هي عنوان لمسيرة حافلة بالمعرفة والفكر وعلوم التصوف، والتي خاض غمارها ذو النون بنور البصيرة وبنفسٍ هذّبها وهيأها لتلقي الفيوض والأنوار الربانية، فكان شيخاً ومعلماً في ذلك الطريق، زاهداً في ما عند الناس، راجياً الذي عند ربه، وتلك هي سمات الصوفي الحق؛ وذلك هو طريق السالكين.

كانت مصر هي مسقط رأس هذا العلامة الذي نشأ وتربى وترعرع في بلاد النوبة، وعرف ببحثه الدائم والمستمر عن المعرفة، فاطلع على مناهج التفكير، وأخذ بطرف كثير من العلوم، فحفظ القرآن الكريم، وانفتح على دراسة المذاهب كلها، لكنه تأثر بموطأ الإمام مالك، ودرس العلوم على يد علماء أجلاء في ذلك الوقت، ويجمع العلماء على أن الرجل قد جعل مصر على موعد مع التصوف، فقد كان أول الذين تكلموا بكلام الصوفية فيها؛ حيث تحدث بعلوم المقامات والأحوال، ولقد لقي من أمره عنتاً شديداً، فقد كان خصومه يتربصون به، وانفض من حوله العلماء والفقهاء في مصر، وأفسدوا الأجواء حوله حتى لا يقترب منه أحد، وكان ذو النون يقابل تلك الهجمة الشرسة بالصمت والإطراق، ولجأ إلى حيلة التورية والترميز في أقواله، وكتاباته، ويقول عنه أحد العلماء: «وكان ذو النون المصري رأس الصوفية أول من استعمل رموز الصوفية فراراً من اعتراض المعترضين»، وعلى الرغم من ذلك فقد كان من المعتدلين في المذهب الصوفي، فلم تعرف عنه تلك الشطحات التي ارتبطت ببعض المتصوفة، لكن الكيد ذهب بالأعداء والخصوم حد أن شكوه إلى الخليفة المتوكل، بعد أن أوغروا صدره تجاهه، فاستدعاه المتوكل إليه في عاصمة الخلافة العباسية، فلما دخل عليه ذو النون قام بوعظه وسرد له قصصاً مؤثرة في الدين، فبكى المتوكل، وقام يخطو حتى عانق ذا النون، وقال له: «أتعبناك يا أبا الفيض»، وقال يوسف بن الحسين: «حضرت مع»ذو النون«مجلس المتوكل، وكان مولعاً به، يفضله على الزهاد، فقال له: صف لي أولياء الله، فقال: يا أمير المؤمنين هم قوم ألبسهم الله النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من إرادة كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته»، فأعجب به وأعاده إلى مصر معززاً مكرماً.

حياة المشقة

لقي ذو النون المصاعب والمشاق، لكن روحه ظلت صافية، وعقله منشغل بالحب الكبير الذي ملأ قلبه، ولعل تلك المقولة، تؤكد هذه المعاني العظيمة، فكان من الذين اختاروا الطريق إلى رب العالمين بزاد المحبة والشوق إلى اللقاء ونيل الرضا والقبول، فكان أن وطن نفسه على الطاعات من دون أن يحيد عنها، وعمل على ألا تغريه مغريات الدنيا، يمارس فعل التقرب بذكر الله، تعالى، فكان أن غمر الإشراق دواخله، وملأت المعرفة عقله، فطابت له حياة خصصها للتعبد على الرغم من مشاقها لأنها تقود نحو الحبيب.

والمقولة الشذرية، تأخذ المرء إلى عوالم تفيض بالجمال والأنوار والحب الخالص لرب الكون، فهي تتضمن دعوة شفيفة للناس كافة بأن يتمثلوها ويعملوا بها من أجل أن يتذوقوا حلاوة الطمأنينة والراحة النفسية التي وجدها ذو النون طريق السالكين المريدين المحبين الذين تركوا الدنيا وما فيها، واختاروا حياة تبدو للجاهل خشنة وقاسية، ولكنها في الحقيقة عامرة بكل ما هو جميل يرضى عنه الله، تعالى، من أوقات خصصت لذكره، وقلوب توجهت لعبادته، وعقول تدبرت نعمه، فكانت نعم الحياة، لكنها لا ترى إلا لصاحب تجربة في المحبة، وتلك هي المعاني التي عبرت عنها هذه المقولة الشفيفة البليغة العظيمة في مقاصدها.

وقد تمثل ذو النون نفسه تلك المقولة، فوجد السلام مع نفسه، والرضا من ربه، وتعرض لكثير من الامتحانات والاختبارات والفتن لكنه واجهها بقلب المؤمن، وظل يتعلم من كل شيء بلا غرور ولا كبر، وله في ذلك الشأن الكثير من القصص والأخبار، ومنها أنه أراد أن يمتحن جارية لكنها هي التي امتحنته، ففي أحد الأيام كان ذو النون يسير بجوار ساقية على النيل وهو يقول في تلك القصة: «انتهيت إلى مكان عال، فتوضأت ورجعت، فوقع نظري على المنظرة، فرأيت جارية في غاية الحسن والجمال، أردت امتحانها، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ قالت: يا ذا النون، لما رأيتك بادئ الرأي ظننتك مجنوناً، فلما صرت قُربنا ظننتك عالماً، ثم لما صرت أقرب ظننتك عارفاً، والآن تبين الحال، وانكشف الأمر فما أنت بمجنون، ولا عالم، ولا عارف. قلت: كيف هذا الشأن؟ قالت: فلو كنت مجنوناً ما توضأت، ولو كنت عالماً ما نظرت إلى غير محرمك، ولو كنت عارفاً ما نظرت إلى غير الله، وما التفتّ إلى ما سوى الحق جل وعلا. قالت هذا الكلام، وغابت عن النظر»، وتلك الحكاية تشير إلى أن الحكمة قد تخرج من أي شخص، طالما كان قلبه عامراً بالحب والإيمان، وأن الإنسان يتعلم من المواقف ويتعظ ويعتبر؛ وذلك ما تضمنته مقولة «ذو النون».

الأنوار

ولعل المقولة تتضمن كذلك الإشارة إلى عتبات لابد أن يخطوها المؤمن في طريق المحبة حتى يتلقى المدد والأنوار، وأولها تهذيب النفس، وطاعة الله، وترك المعاصي، وفي الحقيقة أن تلك المعارف والأنوار لا تتنزل بالأمنيات والكسل، فلابد من الاجتهاد في طاعة رب العالمين، ولابد من تهيئة الذات أولا، وقد عمل ذو النون على تهذيب نفسه وإبعادها عن الفساد والشهوات، فكان يرى أن الخوف من الذنوب دليل على الطريق الصحيح، وكانت كلماته ومواعظه الشفيفة وأقواله الحكيمة، تجد القبول لدى الناس لكونها نابعة من قلب محب، إلى قلب يبحث عن الحب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2hn7c3dx

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"