عادي
قلوب حائرة في مهرجان المسرح العربي

«تودة» تحلم بعالم أفضل.. واللعنة تلاحق «الجلاد»

23:32 مساء
قراءة 5 دقائق
مشهد من العرض الإماراتي «الجلاد»
مشهد من العرض المغربي «تودة»

بغداد: محمد إسماعيل زاهر

«سأرجع إلى قريتي.. العودة إلى الأصل حياة»، هكذا تختتم بطلة العرض المغربي «تكنزا.. قصة تودة» رحلتها الطويلة من قرية صغيرة في الجنوب، إلى إحدى المدن الكبرى، التي لم تستطع الحياة فيها، وشعرت بالنفور تجاهها، مدينة سرقت روحها، ولم تجد فيها إلا طرائق العيش المعقدة، البعيدة عن الفطرة والبساطة، العرض الذي كتبه طارق الربح، وإسماعيل الوعرابي، وأخرجه أمين ناسور، يناقش على مدار 60 دقيقة حزمة من القضايا التي تعترض طريق البشر في تطلعهم إلى الحرية، والحياة الكريمة.

ينفتح العرض الذي استضافه مسرح الرشيد ببغداد، ضمن «المسرح العربي» على خشبة مظلمة يتوسطها صندوق ضخم لا يلبث أن ينقسم إلى نصفين، مجموعة من الرجال في مواجهة مجموعة من النساء، لننخرط بعدها في مسرحية موسيقية غنائية تنهل من تراث القبائل الأمازيغية بمنطقة الجنوب الشرقي للمغرب، وهناك بعض الحوارات التي تدور بين عدة شخصيات، بين كل مقطوعة غنائية وأخرى، نتعرف من خلالها إلى فتاة قوية الشخصية تدعى «تودة»، تقول لنا: «فتحت عيني بين الشعر والنغم، وفي حضن أمي يرقد أخي علي»، هذا الأخ يتميز بشخصية متقلبة وحائرة، يقول في مقطع «لا مساحة رمادية في الرجولة، إما أن تكون رجلاً، وإما أن تكون وضيعاً»، وفي مقطع آخر يردد: «لم أعد أعرف الخطأ من الصواب».

  • نداء غامض

وفي بعض المشاهد تستدعي «تودة» روح أمها المتوفاة، وتناجيها، وترفض أن تصدق أنها رحلت عن هذه الحياة، وتتناهى إلى آذاننا أغنيات تحث على الرحيل سعياً وراء حلم جديد، علّنا نعثر على عالم آخر مختلف نتمكن فيه من تحقيق أمنياتنا، وفي مشاهد أخرى نسمع حوارات بين «تودة» وأخيها الذي يود أن يفرض عليها سلطته الذكورية، ونقاشات مع أب حائر لا يعرف كيف يتصرف، ولا تستطيع «تودة» أن تفر من نداء غامض يدعوها لكي ترحل، فتغادر منزلها، وهي تحمله في قلبها، وتقول بمسحة صوفية: «البيت ليس أربعة جدران، ولكنه المكان الذي تلتقي فيه الأرواح المتآلفة».

ترحل «تودة» إلى مدينة كبيرة، تصادق فيها بنت أخرى، وتتعرف إلى شاب لا تلبث أن تقع في حبه، وبالرغم من ذلك لا تنسجم «تودة» مع المدينة، هناك حاجز دوماً يفصلها عن محيطها ويمنعها من الاندماج في المدينة، فتقرر أن تعود إلى قريتها مرة أخرى، وفي الخلفية أغنية تقول كلماتها: «في الجنوب كل النساء بقلبين، وكتاب يمشي على قدمين».

المسرحية عذبة الإيقاع، وأسهمت الموسيقى الفولكلورية والرقص الشعبي وشاشة «البروجكتور» الموضوعة في وسط الخشبة على دفع المشاهد للهاث وراء متابعة الأحداث. هو عرض يدعو إلى التمسك بالأصالة، ويضرب على فكرة الهوية، فالأخ علي يقول لنفسه: «كنت أعتقد أننا نؤمن بقضايا كبرى، ولكن ظهر لي أن القضية الكبرى الوحيدة هي الانتماء، نعيش نصف حياة ونصف موت وهويتنا مشتتة».

يحتفي العرض أيضاً بالتنوع الثقافي الموجود في المغرب، ويدمج بسلاسة بين العربية الفصحى واللهجة العامية، وقبل ذلك، هو عرض يحيي النساء جميعهن من خلال قلب «تودة» الحائر، أو الموزع دائماً على اثنين: الأب والأخ، الصديقة والحبيب، القرية والمدينة، الوطن والغربة، الواقع والحلم، الأنوثة الرقيقة والمرأة القوية، الآن والمستقبل.. الخ، ولكنه في النهاية قلب يحلم بعالم أجمل وأفضل.

  • اعتراف

بدأ العرض الثاني في اليوم السادس من مهرجان المسرح العربي، وهو بعنوان «الجلاد»، بضحكات عالية من مجموعة من الأشباح، ثم بصوت البطل وهو يقول: «يجب عليكم أن تسمعوني، سأتحدث وأقول كل شيء»، هنا يشعر المشاهد بأنه أمام شخص على وشك الاعتراف بأخطاء، أو خطايا، أو البوح بأسرار ستشكل للمتلقي مفاجأة، ليسترسل البطل بعد ذلك في إدانة الواقع ذلك الذي انفتحت أبوابه كالجحيم، وحيث خرجت فئران الجحور لتستأسد عليه.

مع توالي الأحداث نكتشف أننا أمام جلاد اعتزل مهنته التي ورثها عن أبيه وجدّه، بل هي مهنة عرفت بها أسرته منذ قديم الزمان، لماذا اعتزل الجلاد؟ ولماذا يحاكم نفسه وظروفه؟ هل هي توبة وندم؟ هل هي صحوة ضمير؟ هل هي محاولة للتطهر والعودة إلى براءتنا الأولى؟ لا يجيب العرض عن تلك الأسئلة بوضوح، ومن هنا تأتي جماليته التي يكتسبها من نص ينفتح على أكثر من تأويل.

يعتمد العرض الإماراتي على البوح ومحاورة النفس، أو الدخول في نقاشات مع طرف آخر واحد، أي أن العمل ينهل من فكرة المسرح التقليدية بوصفه فناً يقوم على الحوار بالدرجة الأولى، والبطل يستعيد سيرة الأبطال المأزومين، فكل الناس تتجنبه وتنفر منه، وفي أحد المشاهد التي يتخيلها تحيط مجموعات من الناس بمنزله رغبة في الانتقام منه، ونعرف من السياق أنه يعاني من إشكالية ما في علاقته بوالده، يسأل نفسه بحيرة:«هل أحبك كأب، أم أخافك كجلاد؟»، ولكن زوجته تذكّره بأنه هو أيضاً جلاد، وأن ابنه الذي تحمله في رحمها سيمارس تلك المهنة أيضاً.

العرض، من إنتاج مسرح خورفكان، وتأليف أحمد الماجد، وإخراج إلهام محمد، وهو بمثابة رحلة في عقل ووجدان رجل، يفتش في ضمير صاحب مهنة لا يحبها كل البشر، ويطرح أسئلة تتعلق بالقانون والعدالة، ويناقش مفردتي القتل والإعدام، ويتورط في إشكاليات وجودية من الطراز الرفيع، فكثيراً ما ينقم الجلاد على العالم، ويسأل: لماذا ولدت ابناً لهذه الأسرة؟، ولماذا عملت في هذه المهنة؟ ويسترسل محاولا تبرير ما يفعله «لم أكن أؤدي إلا عملي.. لم أكن إلا منفذاً للأوامر»، ولكن هل تشعره تلك التبريرات براحة الضمير؟ لا، ولذلك هو يهيم على وجهه، طوال العرض الذي استمر لمدة 45 دقيقة، يجلد ذاته، ويرى خيالات، ويستحضر بعض الوجوه التي أنهى حياتها، أشخاص يطاردونه في يقظته وأوهامه، ولا يتركونه يستكين أو يهدأ، ومما يزيد من بؤسه وعذابه أن زوجته كانت بمثابة الضمير اليقظ، ولم تهدأ طوال العرض عن تأنيبه، وفي لحظة مأساوية تخبره أنها أجهضت نفسها، فذلك الوليد لن يكون ملاكاً، بل سيرث المهنة الملعونة نفسها.

يدخل الجلاد في حالة نفسية سيئة، ولا يجد من سبيل إلا الالتجاء إلى الله، فيظل يدعو من قلبه بحرارة وقوة، ويردد «يا غفور يا رحيم»، ولكن زوجته مارست هوايتها في إدانته، أو تعذيبه، فتُردد بدورها «هو المنتقم الجبار»، هي لا تترك له فرصة للتطهر، ولذلك يدخل في حالة هلوسة، ويصرخ: «لماذا تريدون جميعاً أن تعذبوني؟»، وينتهي العرض بالبطل وهو واقف في صمت، والإضاءة مركزة عليه، كأن حياته ستستمر هكذا من دون أن يجد فرصة يتخلص فيها من عذابه.

  • مذنب وضحية

البطل في عرض «الجلاد» مذنب وضحية، في الوقت نفسه، تنبع إشكاليته من أن الجميع يكرهونه، ويبدو أنه يكره نفسه أيضاً، وحتى زوجته لا ترحمه، وكلما وجد تبريراً لنفسه تذكّره هي أنه يحاول أن يهرب من الحقيقة، فعندما يبكي ويقول إن مهنته مثل كل المهن، تردّ عليه بأنه كان يستمتع بتعذيب الناس قبل إعدامهم، وعندما يبرّئ ذاته بالقول: لقد اعتزلت بمحض إرادتي، تبشره بأن كل من قتلهم سيرقصون على قبره كما فعلوا مع أبيه، وفي النهاية لا يجد أمامه أي مخرج من تلك الدائرة الجهنمية التي تحيط به والتي سيظل أسيراً فيها إلى نهاية حياته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/4ph5d58j

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"