عادي

«عشق».. السلام النفسي مشكاة الدرب

00:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
1

الشارقة: علاء الدين محمود

تظل النفس البشرية مشغولة بحب نعيم الدنيا وملذاتها، لا يزجرها عن ذلك شيء، إلى أن يحدث الله أمراً يقلب حياة المرء رأساً على عقب، إنه النداء الذي يشكل منعطفاً جديداً في مسار الإنسان، فيرشده إلى طريق مستقيم من المحبة والصلاح، حينها يكون هم المرء أن يتخلص من الخطايا وينقي النفس من أدرانها التي علقت بها، في رحلة خالصة إلى رب العالمين، ليصبح زاد السبيل هو الزهد من أي شيء إلا محبة الله تعالى، وترك كل شيء إلا حبله المتين، حينها تتنزل عليه البركات السماوية والمدد الروحي وفيوضات من المعارف.

هناك أمر قريب من ذلك وهو ما حدث مع بطل رواية «عشق» للكاتب أحمد عبد المجيد؛ ذلك العمل الذي ينشد السلام الروحي، ويحض على ضرورة ترك الكبر؛ وذلك من خلال قصة الشاب نادر منصور، الذي يعمل كاتباً مشهوراً تتصدر مؤلفاته قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، يقع في حب ذاته؛ فتصيبه كل أمراض الأنانية والغرور، ليصبح كل شيء في الدنيا يدور حول نفسه، لا يشعر لا بأفراح البشر ولا عذاباتهم، يسير في طريق خالٍ إلا من صدى خطواته، يمضي وحيداً تائهاً لا يأنس إلا بكلمات الإطراء تجاهه، فيظل منغلقاً تجاه الآخرين، إلى أن يلتقي بمن ينتشله من تلك الحياة البائسة؛ حيث يمر صاحبنا بتجربة روحيَّة عميقة، كانت هي التغيير الأكبر في حياته، وكان الحبُّ مفتاح التجربة؛ حيث تتغير حياته تماماً، وكذلك نظرته لنفسه؛ فيتخذ موقفاً جديداً من الوجود، فيسير في درب مضيئ بأنوار المحبة، لتعود إلى ذاته الروح، ولحياته الألق، فيعمر قلبه بالإيمان.

حوار

من الواضح أن الرواية تستند إلى الإرث الروحي، خاصة على مستوى اللغة والحوارات والنقاشات وتوظيف المفردات التي تنتمي إلى القاموس الصوفي، ولعل ذلك يتجلى واضحاً في لحظة التقائه لأول مرة، بعزيز الرحماني؛ ذلك اللقاء الذي كان له الأثر الحاسم في تغيير حياة نادر منصور، عبر حوار تبرق فيه الأنوار ويلمع فيه المدد ويتوهج الفيض؛ وذلك عندما سأله الرحماني سؤالاً أدهشه: هل تحب؟، هل ينبض قلبك بالحب؟ ليرد عليه منصور بالإيجاب، فذلك ما كان يظنه في نفسه حينها؛ لذلك فقد اندهش حينما هتف به عزيز: كاذب! أنت لا تحب يا مسكين!، لم يكن نادر حينها يدرك أن هذا السؤال البسيط سيكون بداية رحلة طويلة، تأخذه لعوالم لم يعتقد يوماً أنها موجودة، ولعل من الواضح أن طريقة الحوار نفسها تشبه تلك التي كانت تجري بين أقطاب الأدب الصوفي، أو بين الأستاذ والتلميذ في قصص المؤلفات الروحية القديمة في التراث الإسلامي. 

«العمل جاء بصبغة روحية واضحة»، هكذا تحدث المؤلف عن روايته التي كانت رسالتها هي مفهوم الحب؛ ذلك ما سعى الكاتب إلى مناقشته وتناوله من خلال العمل؛ لذلك حفلت الرواية بالكثير من الأسئلة الفكرية والفلسفية حول المفهوم، وطرحت العديد من المواقف التي تثبر غور معاني المحبة، والبحث عن السلام والخير والجمال، فالعمل يتكئ على الإرث الروحي وينفتح نحو أفق إنساني، يضع في اعتباره البشر في كل العالم وضرورة تعارفهم وتلاقيهم على قيم المحبة والتسامح.

 روح التضامن

وفي خيط آخر، فإن الرواية تلقي الضوء أيضاً على قضية أطفال الشوارع والمشردين، والذين هم نتاج الحياة المادية في العصر الراهن، بتناول يحمل قدراً كبيراً من الاستنكار لذلك العمى الذي أصاب القلوب والأبصار، ومنع الناس من رؤية هؤلاء المساكين وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يقاسون ويلات الحر والبرد وكل تقلبات الطبيعة من دون سند كبير أو عون واضح، فالرواية تتخذ موقفاً نقدياً صارماً ضد الفئات الاجتماعية المرفهة التي تعيش في رغد من العيش، فلا تلقي بالاً بأحوال الآخرين من المساكين والفقراء، فيتراكم الصدى على قلوبها فلا تبصر تلك المعاناة، فهي نفوس فقدت المحبة، فغاب عنها بالتالي السلام والصفاء الداخلي، وتهاوت إنسانيتها، ولن ينصلح الحال إلا بأن تتلمس طريقها مرة أخرى إلى طريق الحب، فهو الذي ينقذ النفوس من شرورها وأعمالها السيئة، فالرواية في هذا الجانب تحض على ضرورة التعاون الإنساني الذي غاب بفعل نمط الحياة الجديدة التي طرأت على البشرية.

 سيرة

لقد أعاد الكاتب إلى القرّاء سيرة الأقدمين من الزهاد وأدبهم، تلك الصور الزاهية، ليسقطها في عصرنا الحديث، علها تمثل طوق نجاة للبشر في عالم يقع تحت ثقل الحياة الاستهلاكية، وتسود فيه الصراعات والفتن والحروب، ويكاد يغيب عنه سلام النفس، فقد استلهم المؤلف قصص الصوفية ومعانيها ودروسها من ضرورة ترك الملذات وحياة الترف، في سبيل البحث عن النفس من أجل لجمها والتصالح معها حتى تنعم بالطمأنينة والسلام، وتعمر بالمحبة والوئام، 

ونجح الكاتب في صناعة قصة روحانية في سياق عصري مختلف عن حكايات الصوفيين في الماضي، لكنها في ذات الوقت حملت أثرهم، فيكاد القارئ أن يلمح بين ثنايا السرد، سمنون المحب وهو يدندن بأشعاره وترانيمه وأهازيجه التي تدعو الناس لأن يسلكوا طريق الحب، وتحرضهم على ألا يرضوا بغيره سبيلاً، أو الرفاعي أو عبد القادر الجيلاني، أو ذو النون المصري، أو الجنيد البغدادي، وغيرهم ممن غابوا لكن آثارهم باقية تحدث عنهم، ينهل منها الناس في كل حين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"