عادي

صوت المنطق وأنشودة العاطفة

23:45 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

علاقة وثيقة وقديمة تربط بين الفلسفة والموسيقى، عبر عنها الكثير من المفكرين والموسيقيين العالميين، وقد قدم الكثير من الفلاسفة القدامى إضافة إلى الحديثين جهداً نظرياً كبيراً يربط بين عالمي الفلسفة والموسيقى، وكذلك فعل المؤرخون والنقاد والباحثون خلال تنقيبهم المستمر عن مراحل بداية العلاقة بين المجالين وتأثير كل واحد منهما على الآخر.

كثير من الخبراء نوهوا بالحضارة اليونانية واهتمامها بالموسيقى التي كانت جزءاً من أصيلا من الحياة، وكانت ترافق العديد من المقاطع والأغنيات والأهازيج والطقوس الاجتماعية والدينية، كما كانت تستخدم الأغاني والأناشيد الموسيقية في الملاحم التي تعبر عن قيم البطولة والنصر والشجاعة، وكان للمغنين والموسيقيين مكانة رفيعة في الدولة والمجتمع؛ بل وكانت الموسيقى تخضع للدراسة والتحليل، الأمر الذي يشير بالفعل إلى عظمة الحضارة اليونانية، عبر ذلك الاهتمام الكبير الذي كانت توليه للفنون، وللموسيقى بصورة أكثر خصوصية؛ بل وحاول المفكرون اليونانيون أن يدرسوا العلاقة بين الموسيقى والوجود.

أفلاطون

فمنذ أمد طويل، وجد بعض من الفلاسفة اليونانيين أن الموسيقى يمكن أن تسهم بصورة أساسية في فهم الكون وتفسير طبيعته وماهيته، بالتالي هي تدخل ضمن حقل الفلسفة، وقد تباينت مواقف هؤلاء المفكرين من موقع الموسيقى بالنسبة للفلسفة، فبينما ينظر إليها أفلاطون باعتبارها فناً يحاكي الواقع، نجد أن أرسطو كان يرى بأن الموسيقى إبداع يسمو على الواقع، وقد كان لأفلاطون ما يشبه النظرية المتكاملة حول الدور الكبير الذي يلعبه فن الموسيقى وإبداعاتها في التعبير عمّا يجري في الواقع من حياة وانفعالات ومشاهد يومية، فقد وجد أن الموسيقى ذات تأثير كبير على النفس البشرية، وأن إيقاعاتها مرتبطة بحركة وإيقاع الكون؛ حيث إن النشاز في عملية العزف، يمكن أن يقود إلى غياب الانسجام والأُلفة بين البشر، ويخرب العلاقات الطبيعة المتجانسة، لكن كان اهتمام أفلاطون الأكبر في الربط بين الموسيقى وحياة البشر ومشاعرهم، وما يمكن أن تسهم فيه في هذا الجانب؛ لذلك عمل على توظيف الموسيقى لأجل التقويم السلوكي والأخلاقي للإنسان.

وتجدر الإشارة إلى أن كتاب أفلاطون «الجمهورية»، قد أفرد مساحة كبيرة للموسيقى، وأثرها في حياة الإنسان، وفي يومياته وانفعالاته ومشاعره، فقد بحث تأثيرات الموسيقى على الأخلاق، ومدى مسؤوليتها في زيادة الفضائل أو الرذائل لدى البشر، كما أنه تناول كذلك تأثيرها النفسي من حيث قدرتها على رفع المعنويات والهمم أو هبوطها في نفس الإنسان، وإمكانية وجود أو نشوء علاقة بين الكلمات والموسيقى، فقد كان ينحاز إلى «الكلمات المموسقة»؛ أي الغناء على الأنغام الخالصة المجردة، لكن أفلاطون كان محافظاً في ذلك الجانب؛ حيث كان يرى أن التجديد في الموسيقى من شأنه أن يخرب النظام، ويسيء إليه؛ حيث إنه من الممكن أن تؤدي إلى خلخلة النفوس واضطراب نظام الدولة.

اختلاف

لكن بطبيعة الحال لم يكن كل فلاسفة اليونان على اتفاق فيما يتعلق بالأثر أو الحضور الإيجابي للموسيقى وتأثيرها على الأخلاق، فعلى العكس من أفلاطون كان «أرسطو كسينوس»، وهو أحد تلامذة أرسطو يرى بأنه لا يوجد في حقيقة الأمر رابط واضح بين الموسيقى والأخلاق، غير أن القواعد والبحوث التي وضعها أفلاطون كان لها تأثيرها الكبير في ذلك الوقت؛ بل وامتد الأثر ليشمل قروناً من بعده، فقد ظلت العلاقة بين الفلسفة والموسيقى موضع بحث ودراسة من ذلك الحين، وهناك من المفكرين من اتفق مع أفلاطون ومنهم من اختلف معه، واشتق طريقاً خاصاً به في البحث في العلاقة بين الفلسفة والموسيقى.

اهتمام مستمر

ومنذ أفلاطون والفلسفة اليونانية وصولاً للفلسفة المعاصرة، صارت الموسيقى تأخذ وضعاً شديد الأهمية في الفلسفة؛ حيث ظلت موضع اهتمام عند كبار الفلاسفة والمفكرين المعاصرين من أمثال ديكارت، وكانط، وهيجل، وروسو، وشوبنهاور، وغيرهم ممن طوروا النظر إلى الموسيقى، وانشغلوا كثيراً بالمسائل المتعلقة بها في فلسفاتهم؛ حيث أشبعوها بحثاً، وتداولوا الأسئلة حولها، وفي طبيعتها وعلاقتها بفهم وتفسير العالم، وكيف تؤثر في مشاعر الإنسان وأحاسيسه وخياله وتصوراته وأخلاقه، وهل الموسيقى لغة قائمة بذاتها؟، ومن المؤكد أن تلك الأسئلة ولدت عند هؤلاء الفلاسفة نظرياتهم المتعلقة بالموسيقى وعلم الجمال.

خلاصة

ولعل من أبرز الفلاسفة المعاصرين الذين أولوا اهتماماً خاصاً ونوعياً بالموسيقى هو الألماني فردريك نيتشه الذي بلغ اهتماه بها درجة أن جعلها وسيلة للخلاص؛ حيث عُرف بولعه بها، وبكونه ناقداً متعمقاً في الكثير من الأعمال الموسيقية، فقد كان يرى في الموسيقى معيناً روحياً للفلاسفة، يعينهم في فهم الحياة، وقد اهتم كذلك بالموسيقى في الأدب والفكر في الكثير من أعماله، خاصة في مؤلفه «مولد التراجيديا»، إلى جانب عدد من المؤلفات الأخرى.

وقد تعمق ذلك الاهتمام بالموسيقى لدى نيتشه من خلال علاقته بالموسيقي العظيم ريتشارد فاغنر؛ حيث نشأت بينهما علاقة كبيرة، وكان لذلك الموسيقار الأثر الكبير في حياة نيتشه؛ بل وفي فلسفته كذلك، فالعديد من الأعمال الفكرية لدى نيتشه كان لموسيقى فاغنر الأثر الكبير فيها، ولقد امتدت علاقة ذلك الفيلسوف الكبير حتى بعد أن قطع علاقته بفاغنر، بعد أن وقعت قطيعة كبيرة بينهما، لدرجة أن نيتشه وصف موسيقاه بالمخدر؛ بل وقام بتأليف كتاب في ذمه بعنوان «حالة فاغنر»، لكن نيتشه ظل وفياً للموسيقى ومكانتها في الفلسفة.

فلسفة الحداثة

وعلى خطى نيتشه، اهتم فلاسفة الحداثة، خاصة من الفرنسيين بالموسيقى، وكان لهم اهتمام كبير بهذا الفن الجميل والمؤثر، ومن أبرز هؤلاء: ميشيل فوكو، جاك دريدا، جاك لاكان، جيل دولوز، وقد أولى الأخير الموسيقى اهتماماً خاصاً، واعتبر أن المفاهيم الفلسفية مثلها مثل الأصوات الموسيقية، موضحاً أن الفلسفة يمكن أن تؤدي خدمة كبيرة للموسيقى، والواضح أن تلك العلاقة الغريبة والعجيبة بين الموسيقى كفن، والفلسفة كفكر ما زالت تجد اهتماماً متعاظماً وسط المفكرين والموسيقيين على حد سواء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"