عادي

لحظة صدق مع الكتب

00:36 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمد إسماعيل زاهر

القراءة في حقيقتها، حزمة من الأسئلة التي يفترض أن يطرحها الإنسان القارئ، على نفسه كل يوم، والتي من المفترض مرة ثانية أن تطرحها كل ساحة معنية بالقراءة بين فترة وأخرى. أي قرءاة من دون سؤال، لا معنى لها ولا أهمية. ففي الحقيقة لا نهاية للإجابات، نعثر عليها في كل مكان، تحيطنا من الجهات كافة.

عندما نتحدث عن أنفسنا، ونقدم ذواتنا للآخرين، عندما نسترسل في التعبير عن آرائنا ومعتقداتنا في السياسة والحياة والحب والثقافة.. وعندما نسلك وفق طريقة معينة أو نرتدي زياً ما أو نتناول طعامنا أو نتعامل مع الآخرين.. في كل هذه المواقف نحن نقدم إجابات مألوفة لنا تعكس تربيتنا وتعليمنا ووضعنا الاقتصادي والاجتماعي، ففي النهاية نحن إجابات تتحرك على قدمين، ولذلك يصيبنا السؤال كثيراً بالتوتر.

نحن نكره السؤال، لقد نحيناه عن مرآتنا في لحظة تميزت بثقة جوفاء في الذات، داعبنا فيها وهم امتلاك الحقيقة. أما من يطنطنون دائماً بأهمية السؤال ويدعون القدرة على طرحه وإثارة الوعي من خلاله، فهؤلاء في الأغلب لا يعيدون إلا إنتاج إجابات يعقبها ظاهرياً علامة استفهام، لا تفصح عن أي جديد.

انتشار

كل قراءة لا تدفعنا إلى طرح سؤال، أو إلى التفكير وإعادة النظر في تلك العوالم التي نحيط بها أنفسنا، قراءة لا يعول عليها، لو استعرنا لغة ابن عربي.

كل قراءة لا تفتح أمامنا باباً جديداً أو لا تخبرنا بما لا نعرفه، أو لا تفاجئنا بقدرة على التحليل والخروج بنتائج مختلفة، هي قراءة اجترارية نمارسها من أجل تمضية الوقت أو التسلية، أو هي عادة.. فكثيراً من مدمني القراءة.. يقرأون أي شيء وكل شيء يقع أمامهم، أو هي قراءة وظيفية، نمارسها بهدف ما، أو هي قراءة تدعيمية، إن جاز الوصف، فمعظمنا إن لم نكن «كلنا» نقرأ ما يدعم أفكارنا ومعتقداتنا.

هذه النوعية الأخيرة من القراءة، التدعيمية، هي المنتشرة أو المكتسحة، بين القراء، وهي ما تجعل الأفكار، أي أفكار، بمثابة الحقائق المطلقة، والتي ينتج عنها وجهات نظر ورؤي في الذات والآخر ومختلف القضايا.

في لحظة معينة في تلك الرحلة الطويلة المسماة قراءة، أو بعد مرحلة التكوين الثقافي والمعرفي، أو بعد «النضج» القرائي أو الشعور الوهمي بالشبع من الكتب، وكلها مراحل مر بها الكثيرون من القراء، يقف التطور ويندر أن يتابع قارئ ما ما يكتبه آخرون يتناقضون معه في قناعاته وخياراته، وإن فعل ذلك فهو يقرأهم ليس بهدف الفهم ومراجعة النفس، ولكنه يفعل ذلك ليختلف عنهم أكثر، ليعثر في هذه الزاوية أو ذلك الركن على ما يدعم صورته الذهنية عنهم، انظر إلى أي معركة أدبية أو فكرية على مدار القرن الماضي بأكمله ستلاحظ هذه الظاهرة، وهي أننا لا نقرأ «الآخرين» عندما نطالع كتبهم، ولكننا نقرأ بحثاً عن أخطائهم، نقرأ لنؤكد صواب صورتنا عن أنفسنا.

هجوم كاسح

دعونا لا نذهب إلى معارك قديمة في الشعر أو الفكر أو الرواية.. إلخ، فالملاحظ الآن ذلك الهجوم الكاسح على الثقافة الإلكترونية بأبعادها كافة، مواقع التواصل.. التوجه إلى القراءة الإلكترونية.. تلك الأشكال الأدبية الجديدة التي تتمخض.. إلخ، ينبني هذا الهجوم على تصورات، بغض النظر عن مدى صوابها، تنتمي إلى العالم القديم، ليس هناك من يحاول أن يتعرف إلى أبعاد تلك الثقافة بإيجابياتها وسلبياتها، هو النقد الدائم والسخرية المتواصلة من الأجيال الأكبر أو الأقدم من المثقفين، هنا لم تطرح أسئلة: لماذا يتوجه البشر الآن إلى هذه الثقافة؟، هل المسألة تتعلق بالسهولة.. السطحية أم أن هناك حاجات اجتماعية واقتصادية خلف الصورة؟، هل يغيب العمق تماماً عن هذه الثقافة؟، هل نتجت عن تراجع النخب التقليدية أم تسببت في سقوط تلك النخب؟، هل هي مؤهلة لإنتاج نخبها مع نضج التجربة؟، عندما يحاول أي مثقف تقليدي الكتابة عن تلك الثقافة فهو يذهب إليها ليس بهدف التعرف إلى شيء آخر ربما يضيف إليه، ولكن بغرض تأكيد وجهة نظره وإعادة اجترار مفاصل حقائقه المطلقة، وليكسب بعض الطمأنينة حيث يتضاعف شعوره بالنخبوية، فهو أولاً ينتمي إلى نخبة قديمة طالما ترفعت عن البشر، والآن ينتمي إلى نخبة النخبة.. إلى القراء الحقيقيين.. والباحثين الحقيقيين والمؤلفين الحقيقيين الذين لا يؤمنون ب«حمقى» الثقافة الإلكترونية، ولا يعترفون بهم.

عقبات

عدم طرح الأسئلة، الناتجة عن القراءة «الحقيقية» عقبة في طريق التطور، وإذا عدنا إلى معاركنا القديمة، فلن تجد ساحة تتجاور فيها كل تلك الأشكال الأدبية إلا ساحتنا العربية، لا يوجد شكل قابل للاختفاء، ولا يوجد شكل قابل للاندماج مع شكل آخر، لإنتاج ثالث، هناك من لا يزال يكتب بلغة لا تعثر عليها إلا في كتب الجاحظ، ومن يكتب أقرب إلى المقامة ويظن أنه ينتج رواية، ومن يكتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، والمشكلة أيضاً ليست في الشكل ولكن في لغة كل قصيدة، أي كتابة قصيدة عمودية بروح المتنبي وقصيدة تفعيلة على خطى نزار قباني، والكل يجد له جذراً عندما يحاول التأصيل، والصورة نفسها سنعثر عليها عندما نتوسع في مفهوم القراءة وننتقل به من الكلمة إلى العين والأذن، ستتكرر أمامنا الحالة في الفنون المرئية والموسيقى. تتميز ثقافتنا العربية باستيعاب كل جديد، ولكنه الجديد الذي لا يلغي القديم، وهذا القديم لا يستفيد من الجديد ولا يتأثر به، ولا يمكن النظر بإيجابية تجاه ظاهرة تجاور القديم والجديد، باعتبارها ظاهرة تدل على التعدد، فهذا التجاور قائم على نفي كل طرف للآخر، لا على التحاور والتلاقح.

نحن نقرأ لكل يتغير بداخلنا شيء ما، شيء وجداني أو عقلي، نحن نقرأ لكل نتطور بصورة مستمرة، لكي نتزحزح عن أبراجنا العالية، لكي نشك ولو لبرهة في قناعاتنا، لكي نفهم الآخرين، لكي نطرح أسئلة نراجع من خلالها العالم في لحظة صدق مع الكتب.

القراءة لحظة نتخفف فيها من ثقل ذواتنا التي نعرفها باتجاه كل ما هو مختلف ومغاير، ومن دون هذا المعنى أعتقد أن القراءة فعل بلا أي قيمة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"