عادي
الطعام مأكولاً ومقروءاً

الملح.. نفط العالم القديم

00:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
عمال يجمعون الملح في فيتنام

محمد إسماعيل زاهر
إذا رأيت الملح في المنام فإنه زهد في الدنيا وخير ونعمة، ومن أكله مع الخبز فقط فقد اقتنع من العالم بشيء يسير، وإذا رأيت ملح الناس قد غلظ فإن الطاعون يحل بذلك المكان، أو تقع به مجاعة أو قحط. عديدة هي تأويلات ابن سيرين للحلم بالملح، أما عبد الغني النابلسي، ثاني أشهر مفسر للأحلام في التراث العربي، فيذهب أبعد من ابن سيرين، فرؤية الملح دلالة على الألفة والمحبة، ويعتبر أن النحو في اللغة كالملح في الطعام.

عندما تذهب إلى «السوبر ماركت» لشراء أغراضك المختلفة فأنت تتناول عبوة الملح من على أي رف بتلقائية ومن دون أي هم، ولا تتصور أن هناك مشكلة ستصادفك للحصول على الملح، ولكن الأمور لم تكن هكذا في الماضي، ففي مراحل سابقة من التاريخ، كان الملح في بعض الأحيان يساوي وزنه ذهباً، وكانت هناك أزمات تحدث في الملح تدفع الحكومات للإشراف على توزيعه.

استخدامات

هناك حروب اشتعلت نتيجة للملح، وضرائب فرضت على تجارة الملح، وشعوب أطلق عليها شعوب الملح، وأساطير وحكايات وأمثال شعبية دارت حول الملح، ويذكر الصحفي الأمريكي مارك كورلانسكي في كتابه الشهير «الملح..تاريخ عالمي»، أنه استقى مادة عمله من 10 آلاف كتاب ومرجع عن الملح، وأن هناك أربعة عشر ألف وجه لاستخدام الملح تضم صناعة الأدوية والصابون وتسميد التربة وتذويب طبقات الجليد من على الطرقات...الخ، أي أننا أمام مادة شغلت حيزاً كبيراً من مدونة الحضارة الإنسانية.

يؤكد كورلانسكي أنه لا يوجد مكان على الأرض يخلو من الملح، ولكن تلك الحقيقة ظلت غائبة حتى كشف عنها علم الجيولوجيا الحديث، وظل البشر لآلاف السنين يبحثون عن الملح ويتنازعون عليه حتى القرن العشرين، واحتفظ الملح بمكانته كرمز للثراء لفترات طويلة جداً.

متى اكتشف الإنسان أهمية الملح؟، هل بدأت القصة مع طعمه؟ الذي يقال إنه يداعب أهم منطقة في حاسة التذوق لدى البشر والحيوانات، أم من دوره في تنشيط الدورة الدموية ومنح الجسد المزيد من الطاقة والعناصر التي يحتاج إليها؟.

في مشهد مؤلم من رواية «الجوع» للنرويجي الحاصل على نوبل للآداب كنوت هامسون، يجرح البطل الذي لا يجد ما يأكله، يده حتى يحصل على الملح من دمائه ويقاوم الإغماء. وكما اكتسب الدم قدسية ما في وعي الإنسان البدائي، كذلك كان الملح إذ إن جميع سوائل الجسم تحتوي على الملح.

عرف البشر في وقت مبكر للغاية أيضاً ضرورة الملح للحيوانات الداجنة، فالحصان يحتاج خمسة أضعاف ما يستهلكه الإنسان، ويرتفع هذه المعدل إلى عشرة أضعاف لدى البقرة.

آفاق

بدأ البشر يعرفون دور الملح في منع التحلل خلال الحضارات القديمة، واعتمد التحنيط في مصر الفرعونية على الملح، وكان وادي النطرون خزاناً استراتيجياً للملح المقدس، وفي أوروبا القرون الوسطى قام الفلاحون بنقع حبوبهم في الماء المالح لحمايتها من مرض «الدابرة»، وهو إصابة فطرية تؤدي إلى تسمم البشر والمواشي، وفي كثير من الثقافات القديمة، استخدم الملح في توثيق المعاهدات، وفي المسرح الياباني كان يرش على الخشبة لحماية الممثلين من الأرواح الشريرة، وفي هايتي اعتقد السكان أن الملح الوسيلة الوحيدة لإبطال السحر، واعتبره البسطاء في بلدان مختلفة حول العالم مادة تحمي من «إيذاء العين الشريرة» أو الحسد، وفي الكنيسة الكاثوليكية قدم الماء المقدس دائماً مع الملح، وسمي ب«ملح الحكمة»، وفي الثقافة الشعبية المصرية يدل تعبير «عيش وملح» على معرفة وثيقة تجمع بين طرفين.

في روما القديمة دارت حوارات سياسية عديدة حول الحقوق المتاحة للبشر، يأتي في مقدمتها حق «الملح العام»، والذي يشير إلى أن الملح حق لكل إنسان، ففي خطورة ثورية في العالم آنذاك لم تحتكر السلطات الرومانية بيع الملح مثل الصين، بل ودعمت أسعاره حتى يحصل عليه الجميع، والملاحظ كذلك أن معظم المدن الإيطالية تأسست بالقرب من الملاحات، وتقاضى الجنود أحياناً رواتبهم على شكل كميات مختلفة من الملح، من هنا منشأ كلمة «سالاري» من «سولت».

وفي رحلات ابن بطوطة خلال القرن الرابع عشر الميلادي حكايات عن مدينة «تغازه» في الصحراء الكبرى الإفريقية المبنية بالكامل من الملح، بما في ذلك مسجدها الفخم، وفي تمبكتو كان السكان يمضغون الملح.

في القرن السابع عشر كانت بريطانيا، ولأسباب تقنية عديدة تتعلق بالبحار التي تحيط بها، تعتمد على الملح الفرنسي والمستخرج من البحر المتوسط، مما دفع القادة الأنجليز إلى الحديث عن مخاطر الاتكال على الخارج في تلك المسألة الحساسة، وهو ما يشبّهه كولانسكي بحديث البعض هذه الأيام عن ضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني من القمح أو النفط.

صراع

مع عصر الكشوف الجغرافية نشأ الصراع حول مختلف التوابل، ومن ضمنها الملح، والذي استخدم في حفظ أطعمة عديدة، يأتي على رأسها سمكة القد تلك التي لعبت دوراً كبيراً في التجارة البحرية في ذلك الوقت، وإذا رأيت أحياناً في أحد المحال التجارية بيضاً مملحاً، فلا تستغرب، فهذا الطعام كان ضرورياً خلال رحلات الصيد والاستكشاف الطويلة التي مارسها الأوربيون على مدار قرون ممتدة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"