في رواية «عشت الموت» للزميل وليد عثمان تعود جثامين المصريين من العراق في توابيت مرفوعة إلى الله وإلى الرحمة، بعدما لقي هؤلاء الموتى الشباب وجه ربّهم، وقضوا نحبهم في غربة البحث عن لقمة العيش، ولا بأس، إذا عادوا إلى ذويهم بمسجلة أو لفّة قماش، أو القليل من أساور الذهب لزوجات شابات مستورات أو القليل من المال لبناء بيت هو في الغالب من الطوب.. لكن لم يحدث كل ذلك على الوجه الذي أراده هؤلاء المغتربون الشباب.. لقد عاشوا شبه موتى، «عاشوا الموت» بعدما ماتوا في الحياة، ويكفي أشهد أن لا إله إلا الله، وإنا إليه راجعون، وتلاوة القرآن الكريم بلسان مقرئ متعلم في سرادق العزاء.
يكاد، هنا، النص الروائي، يتحول إلى «نص» واقعي تماماً، ونحن نشاهد عودة جثامين شباب مصريين كانوا يعملون في ليبيا، وماتوا في فيضانها أو «فيضها» المائي المرعب الذي جرف البشر والحجر والشجر، وكان المصري هذه المرة ليس مادة سردية روائية فقط، بل هو واحد من أبطالها، وهو، بالطبع، ليس في حاجة إلى هذه البطولة.
لقد شاهدت أعداد المصريين الذين كانوا يتحدثون إلى وسائل الإعلام من أهالي نزلة شريف، أحد الأرياف المصرية التي عادة ما يغادر شبابها للعمل في العراق وفي ليبيا.. وهؤلاء في الغالب لم ينالوا حظاً كافياً من التعليم.. يقطع الواحد منهم تذكرة سفر غالباً ما يستدين ثمنها من جاره أو ابن عمه، ويسافر، تاركاً أهله وعياله، ليعمل في أشغال البناء عادةً، دهّاناً أو عتّالاً للطوب وأكياس الأسمنت وجرّ قضبان الحديد.. والبعض من هؤلاء العمال قد يحمل درجة البكالوريوس.. لا عيب في عمل كهذا مطلقاً بالنسبة لكرامة العامل المصري، فالعمل جزء من تربيته وثقافته الريفية عادة، وهو إن صدف وكان يحمل شهادة جامعية، ويعمل نجّاراً أو بنّاءً أو حارس عمارة أو مزارعاً، فهو في الوقت نفسه، في ليبيا، أو في أي مكان في العالم يحمل زهواً خصوصياً رائعاً يتصل بكرامته هذه، فهو متعلم، شاب جامعي «أو غير متعلّم بالمرّة»، لكنه في كل الأحوال يأكل خبزه بعرق جبينه..
لقد توقّفت مدهوشاً، بل ممتلئاً بالإعجاب من ذوي أولئك العمال الذين لقوا وجه ربهم في فيضان ليبيا.. يرتدي أهل العائدين موتى أو شهداء جلاليب فلّاحية واسعة عادةً «ربما لكي تخفي نحول هؤلاء الفلّاحين البسطاء»، ولم أشاهد أحداً منهم يبكي قط أو يجهش بالبكاء، وإن كان لا بدّ من حزن طبيعي في مثل هذا الموت التراجيدي حقاً، فإن دمعة واحدة تكفي. إن مأساة فلّاحية أو في أقصى درجة ممّا هو شعبي وإنساني بهذه الصورة من ليبيا وإلى قرى وأرياف صعيد مصر ومناطقه المصدّرة لمثل هذا النموذج من البطل، بطل الطوب والأسمنت والحديد، إنما هي فعلاً الرواية التي تكتب نفسها بنفسها من دون حاجة إلى أي تعليق آخر... ربما يفسد الملح في دمعة ذلك الفلّاح المصري في جلبابه الوسيع.
[email protected]
https://tinyurl.com/4c754fz7
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







