عادي
قرأت لك

«رحلة المقيظ»... تفاصيل تأبى النسيان

19:20 مساء
قراءة 4 دقائق
موزة محمد بن خادم - الغلاف

الشارقة: علاء الدين محمود

يحتوي التراث الإماراتي على الكثير من الممارسات والحكايات والقصص والذكريات التي تربط الإنسان بماضيه الجميل، رغم قسوة تلك الأيام التي سبقت النهضة الكبيرة التي تشهدها الدولة، حيث لا يزال رجال ونساء الدولة ممن عاشوا تلك السنوات، يتذكرون تلك الأماكن والمواقع التي رسخت في ذاكرتهم، وقد انكب الكثير من الباحثين في مجال التراث على التوثيق لذلك التاريخ القريب، وما يتضمنه من مشاهد ليظل الماضي حاضراً في الأذهان، فمنه يستقي الإنسان القيم والتقاليد والعادات الحسنة ويحافظ على هويته.

«رحلة المقيظ في التراث الثقافي الإماراتي»، للدكتورة موزة محمد بن خادم المنصوري، الصادر عن معهد الشارقة للتراث في طبعته الأولى عام 2021، يعد من أهم المؤلفات التي تناولت هذا الطقس المهم «رحلة المقيظ»، وهو من المناسبات والطقوس الثقافية والاجتماعية المهمة التي مارسها الإماراتيون في الماضي القريب، بغرض الاستجمام بعيداً عن القيظ وشدة حرارته، والكتاب يتناول ذلك الطقس، وما ارتبط به من ذكريات وقصص وحكايات، حيث كان أبناء الحضر يشدون الرحال إلى البادية والواحات في أوقات الصيف، والكتاب عمل على توثيق كل ما ارتبط بتلك العادة القديمة من ممارسات ثقافية، وينفتح على تلك العوالم المفعمة بالجمال والممارسات الإنسانية إلى جانب الظواهر الاجتماعية والثقافية، إذ إن الإصدار نفسه بمثابة رحلة نحو تلك الأماكن التي كان يشد إليها الرحال قديماً، مع التعريف بتفاصيل الرحلة المفعمة بمشاعر الفرح والسرور والروح الجماعية، كما يتعرف القارئ إلى وسائل التنقل المستخدمة في الترحال، وما يشوب هذا السفر والتنقل، وما يتخلله من علاقات إنسانية واجتماعية، بل واقتصادية كذلك، والكتاب بمثابة وثيقة ومرجع يلقي ضوءاً كثيفاً على إرث قديم من التراث الإماراتي الغني والمتنوع، بتعدد مفرداته وبيئته.

الكتاب يقع في 203 صفحات من القطع المتوسط، ويشتمل على 8 فصول، وعناوين تحكي عن رحلة المقيظ، وذلك الترحال الجماعي عندما يحل الصيف والقيظ، فلا يترك للبشر من سبيل غير الانتقال إلى أمكنة جيدة الطقس والمناخ، من ناحية البرودة، ويلفت الكتاب إلى أن تلك الرحلة ترتبط بالذاكرة الجمعية لأهل الإمارات، حيث تمر في أذهان الذين عايشوا تلك التجربة عشرات الصور والمشاهد التي مروا بها، حيث كانت تحملهم قوافل الإبل وغيرها من الدواب، في رحلة عبر الصحارى والقفار بصورة سنوية، نحو الأودية والواحات، وغيرها من الأماكن المكسوة بخضرة أشجار النخيل والفاكهة، فيستقبلهم هناك النسيم الذي يوقظ الأنفس المرهقة والمتعبة، وفي تلك الأماكن يقوم الناس بصناعة بيوت مؤقتة من سعف النخيل، وتشير المؤلفة إلى أن مادة الكتاب تم إعدادها من الروايات الشفاهية لكبار السن من المواطنين الذين حضروا تلك الرحلات، وشاركوا فيها، ولا تزال ذاكراتهم تحمل تفاصيل دقيقة، تحفزهم للحكي عن مشاهد ومواقف متعددة، ولئن كانت الإبل والدواب هي أداة المواصلات المستخدمة في تلك الرحلة، فقد ظهر في أوائل الستينات من القرن الماضي، سيارات الدفع الرباعي التي سهلت كثيراً من صعوبة الانتقال والترحال إلى البوادي البعيدة، وقرّبت المسافات.

*أسرار

تشير المؤلفة كذلك إلى أن الكتاب يكشف عن الوقائع الاجتماعية والحياتية التي جرت في أثناء تلك الرحلة، والكثير من الأسرار، حيث إن أيام القيظ ورحلاته تحتاج بالفعل، إلى العديد من الدراسات والأبحاث من أجل التنقيب عن ذلك الموروث المحتشد بالظواهر والصور والطقوس الفولكلورية، فتلك الرحلات الجماعية تضمنت الكثير من أشكال وأنواع التواصل بين الإماراتيين، وكذلك التعرف إلى البيئات الجغرافية المتنوعة التي تعكس تعدداً في الثقافات ما بين حياة الجبال والواحات والسهول والوديان، الأمر الذي عزز من علاقات الإماراتيين ببعضهم بعضاً وصنعت نوعاً من الوحدة والترابط والتلاحم، ويعدد الكتاب فوائد تلك الرحلات وأثرها في الإنسان الإماراتي وعلاقته بالمكان، فمن خلال هذا الكتاب يتعرف إنسان الإمارات والأجيال الجديدة إلى العديد من الممارسات الاجتماعية والثقافية التي سادت في أزمنة مضت، وعلى أسماء الأماكن وطرق العيش والمهن التي عرفها الإماراتيون في البوادي، البعيدة والقريبة.

ويلفت الكتاب، إلى أن رحلة القيظ كانت محببة لدى الإماراتيين، حيث كانوا يستقبلونها بفرح غامر، لأنها سوف تنقلهم إلى أمكان أكثر برودة وألطف مناخاً، كما أن الترحال في حد ذاته يبعث في النفس السرور، ولئن كان الذين يشدون الرحال تتملكهم تلك المشاعر الإيجابية، فإن السكان في البوادي كذلك كان يستبد بهم الفرح والحبور وهم يستقبلون القادمين إليهم، لتظهر في تلك اللحظات المعادن الأصيلة للإماراتيين، من قيم الكرم والحفاوة وصناعة العلاقات الاجتماعية بينهم، تلك التي تترسخ وتبقى على مر الأيام والسنوات، لذلك كان الإماراتيون ينتظرون تلك الرحلة من أجل الاستمتاع بالطبيعة بعيداً عن أجواء المدن القاتمة في فصل الصيف، ولعل من فوائد الكتاب أنه ينقل صورة حية عن ذلك الشقاء والشظف والكبد الذي عايشه الأجداد فأمدّهم بفضيلة الصبر على الشدائد، فالبيئة كانت حينها في غاية الصعوبة تغلب عليها الرطوبة العالية وأشعة الشمس المشرقة.

*أدب وشعر

ويشدد الكتاب على أن التغيرات المناخية والصيف وبيئة ما قبل الازدهار والتقدم الذي تعيشه الإمارات اليوم، أدى إلى أشكال عدة من الأنشطة الاقتصادية والرحلات المختلفة بحسب التنوع والاختلاف البيئي، فهنالك الرحلات البحرية المتعلقة بالغوص بحثاً عن اللؤلؤ، حيث كان هذا النشاط الاقتصادي واحداً من أهم الأنشطة التي مارسها الإماراتيون، وأفرز العديد من الظواهر الاجتماعية والثقافية، وكذلك هناك الرحلة البرية التي تنشد البحث عن المصايف والأماكن الباردة، وهي التي يتناولها الكتاب ويبحث في خصوصيتها، ويتناول الكتاب الإعداد لتلك الرحلات التي تمتد لما يزيد على ثلاثة أشهر، حيث يتجمع كل فريج ويتنقل في شكل قافلة يترأسها «الكري»، وهو مسؤول الرحلة الذي تكون لديه خبرة واسعة بالطرقات السهلة الآمنة، وأماكن التوقف للراحة والأكل، وآبار المياه، حيث يتم تحديد اليوم المناسب للرحلة، وتجهيز البوش؛ أي قافلة الإبل، وحمل المواد الغذائية والمياه والملابس والهدايا لمستقبلي الضيوف، ثم تنطلق الرحلة بالأغاني والأهازيج وسرد القصص وإلقاء الشعر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mfkz6vnw

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"