عادي

القصيدة المظلومة نقدياً

23:57 مساء
قراءة 6 دقائق
1
1

** استطلاع: نجاة الفارس

عبّرت القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة عن روح المكان ومفرداته بقوة، فلماذا لا يظهر ذلك في قصيدة النثر الإماراتية؟، يؤكد عدد من الشعراء والنقاد أنه لابد من إعادة النظر في ما قدّم من نتاج أدبي عموماً، وقصيدة النثر الإماراتية خاصة، لنكتشف الكثير من النقاط المضيئة في مسيرة الأدب الإماراتي، موضحين أن شاعر قصيدة النثر لم يركز على المكان إلا في حدود ما يخدم رؤيته وتجربته الوجدانية، فهو لا يزال مشغولاً بالبحث الدائم عن موطئ قدم راسخة بين شعراء الأشكال التقليدية.

الشاعر ناصر الزعابي يقول: «لا أعتقد أن قصيدة النثر الإماراتية بمعزل عن روح المكان، فهي ابنة بيئتها وتستمد موضوعاتها من أحداث معاصرة ومشاهد وتأملات مستمدة من بيئة الشاعر، ولعل خصوصيتها ذات الإيقاع الحيوي وقوالبها المتنوّعة، والغموض الذي غلب على بعض القصائد لم توضّح بشكلٍ ملموس أبعاد المكان وسيرة الشعراء، لكن هناك نماذج إماراتية معاصرة خصّصت إصدارات كاملة تتحدّث عن روح المكان وأسماء المدن كديوان «أطلس» لعبدالله السبب، أول ديوان نثر يتحدّث عن الإمارات السبع، ويستعرض مآثر القادة المؤسسين، ونرصده أيضا في ديوان «كوخ مالح» لأحمد العسم الذي روى سيرة المكان في إمارة رأس الخيمة، وفي ديوان «الأشياء تمر» لثاني السويدي نجد تعلّقه بالمكان ومدينته، ومن يقرأ دواوين أحمد راشد ثاني سيجد مدى تعلّقه بمسقط رأسه خورفكان، والعديد من القصائد فيها إشارات واضحة للمكان وكذلك الشخوص». 

الصورة
1

غياب

وربما تعود تلك الظاهرة، وفق الزعابي، إلى أننا نفتقد الدراسات الأدبية النقدية التي لم ترصد المكان، خاصة في العقد الأخير، فأغلب الدراسات النقدية المتاحة تناولت الشعر حتى عام 2010، فهناك عقد كامل من الزمن يحتوي على أعمال لا يستهان بها من المجاميع الشعرية الإماراتية لم تتناولها الأقلام النقدية.فلابد من إعادة النظر في ما قدّم من نتاج أدبي عموماً، وقصيدة النثر الإماراتية خاصة، لنكتشف الكثير من النقاط المضيئة في مسيرة الأدب الإماراتي، ولعل غياب كتب النقد عموماً أضعف هذا الجانب، ولم يطّلع القرّاء على أعمال مميزة تاهت في زحام النشر، لكن القصيدة الإماراتية حاضرة بقوة، ولها مفرداتها  ومضامينها. د. شعبان بدير، ناقد وأكاديمي، يقول: «قصيدة النثر عمل يحتوي على بعض الصفات الفنية أو الأدبية كالإيقاع المنتظم، والبنية، والخيال وتفجر العواطف إلا أنه تتم كتابته كنثر، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن قصيدة النثر أصبح لها حضور قوي على الساحة الأدبية العربية عموماً، والإماراتية بوجه خاص، بل وجذبت إليها العديد من الأسماء اللامعة عبر الأجيال المتعاقبة، أمثال حبيب الصايغ وأحمد  المدني، ممن صدر لهم الكثير من الأعمال  الشعرية التي واكبت التطورات التي شهدتها القصيدة عند شعراء الحداثة، حتى إنها كانت أسبق من الأشكال الشعرية التقليدية، وهناك وكذلك إدخال الجانب الشعبي في القصائد كما نرى عند أحمد راشد ثاني، الذي جعل المكان جزءًا من تقنياته السردية الشعرية، حتى صار للمكان أبعاده الرمزية عنده وعند شعراء هذه القصيدة مثل:  عبدالعزيز جاسم، الذي صار للبحر عنده أبعاده الرمزية والصوفية».

مجاز ورمز

 ويرى بدير أن شاعر قصيدة النثر لم يركز على المكان الحسي إلا في حدود ما يخدم رؤيته وتجربته الوجدانية، التي جعلت للمكان أبعاده الرمزية والتصويرية المجردة التي تستند إلى الخيال، حتى صار التعامل مع المكان بآليات المجاز والرمز والمرجعية المشتركة بين النص ومتلقيه، فالمكان له معادلاته الموضوعية، التي يحاكي بها المشاعر وتنطق بلسان الدلالات الكامنة في وجدان شعراء هذه القصيدة، فالمكان هو الحنين والوطن والأحلام إلى جانب أن شاعر قصيدة النثر لا يزال مشغولاً بالبحث الدائم عن موطئ قدم راسخة بين شعراء الأشكال التقليدية، حتى إنه يحارب طواحين الهواء في خلق المجال الفسيح لاتجاهه الشعري، حتى صارت قصيدة النثر كما يصفها بيتر جونسون: «كما أن الفكاهة السوداء تمتد على الخط الرفيع بين الكوميديا والمأساة، هكذا تغرس قصيدة النثر قدماً في النثر، والأخرى في الشعر، وكلا الكعبين غير مستقرين كمن يقف على قشور الموز».

تجديد

 د. عبير الحوسني، ناقدة وكاتبة، تقول: «جميعنا يؤمن بأنّ القصائد الشّعرية قائمة على اللّغة بتراكيبها ومعانيها، فهي تعكس لنا تفاعل الذّات مع العالم والوجود، فالشّعر ديوان العرب، يرتكز على الوزن والقافية ولا يمكن فصلهما عن الشعر، ولو تأملنا الشعر سنجد أنّه مثل بقيّة الأمور الكونيّة طرأ عليه التّغيير والتّطور، فأخذ الشاعر يجرّد الشّعر من بعض القواعد المتعلّقة بالكتابة والذّات الشاعرة من ناحية، والقواعد المتعلّقة بالأطر الشّكليّة التي قيّدته ليخرجه في قالب جديد، فأي تغيير يعني القبول بالجديد والمفيد، فكانت قصيدة النّثر، التي جرّدت الشعر من القوالب الكلاسيكيّة لتطلقه نحو عالم المجازات والدّلالات. قصيدة النّثر حركة إبداعية وسعت حدود الشعر، وأمامها نحن نتحدّث عن التّجديد الذي لا يمكنه أن يتحقق داخل قوالب تركيبية جامدة».

 وقصيدة النّثر الإماراتيّة، وفق الحوسني، تعكس التّطور في الأدب، حيث ذكاء العبارات وشفافيتها رغم الثّقل اللّغوي وانفتاحها على المعارف الأخرى التي تشغل بني البشر كالحياة والموت، والحب والأمل، والحلم وغيرها، باختصار اللغة في قصيدة النثر هي لغة التفاصيل يبحث من خلالها الشّاعر عن الموضوعات غير المرئيّة، والمهملة التي يراها عامة الجمهور تحت مجهر العادي، فينقلها لنا من منظوره ورؤيته للعوالم من حوله، مبتعداً عن حدود المكان إلى الميتافيزيقا وما وراء الأشياء. إنّ قصيدة النّثر الإماراتيّة تجاوزت نموذجية اللّغة إلى الإبداع في الدّلالات التّعبيريّة وتعدّد فضاءاتها، وهذا جعل اللغة تقترب أكثر من المتلقي بوعي لغوي جديد، فالكلمة في قصيدة النّثر تدلّ على حالة الشاعر ووعيه الحديث، متجاوزة حدود المكان وحدود الكلمة دلاليّاً».

 تحولات

الدكتور أحمد عقيلي، ناقد وأكاديمي، يقول: حين نتحدث عن أي فن من الفنون الأدبية فإننا نعلم حقيقة مهمة وهي أنه لا يولد من فراغ، ولا يظهر بين ليلة وضحاها، بل هو وليد البيئة والتحولات الثقافية والاجتماعية والإنسانية والوجدانية، ولا شك في أن هذا الكلام ينطبق على الحركة الثقافية الإبداعية العالمية والعربية والمحلية، وحين نتحدث عن قصيدة النثر وخصائصها في الساحة الإماراتية، نلحظ ظهورها في ستينات القرن الماضي، بعد أن سبقتها قصيدة التفعيلة وانتشارها إلى جوار القصيدة العمودية، ولعلي لست ممن يحبّذون الموازنة بين – قصيدة النثر – وقصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية لأن لكل فن أدبي إرهاصاته وظروفه الواقعية والاجتماعية، وقصيدة النثر – من دون الوقوف على اختلاف الآراء في تسميتها- وليدة النهضة التقنية والقفزات المعلوماتية الهائلة لعصر الحداثة وما بعد الحداثة، وما رافقه ذلك من تغيرات في نمط الحياة التي لا بد أن تنعكس في بنية النص الإبداعي شكلا ومضمونا، خصوصاً أن هذه القصيدة مرت بمراحل متعددة حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، ولو أردنا الولوج في عمقها لوجدنا أنها تختلف تماماً عن شعر التفعيلة والشعر العمودي من حيث البناء اللغوي والموسقة الإيقاعية والنسق الناظم لها، وحتى في المضامين الفكرية وإرهاصات الزمان والمكان، لكن هذا الاختلاف لا يعني أنها تغفل، أو تهمل الظلال المكانية، وإن كان حضورها متواضعاً قياساً بقصيدة العمود أو شعر التفعيلة.

حضور واضح

 يقول الدكتور أحمد عقيلي: صحيح أن قصيدة النثر لم تصل إلى ما حققته قصيدة التفعيلة ومن قبلها القصيدة الأم وعمود الشعر العربي قصيدة الشطرين، من حيث قوة البناء اللغوي والإيقاعي والانعكاس الوجداني لروح الزمان والمكان، لكنها استطاعت في فترة وجيزة أن تثبت حضورها الفني على الساحة الثقافية بوصفها أسلوباً أدبياً وآلية فكرية في التعبير واستشراف المستقبل مع الارتباط بالتراث والماضي.

أسئلة

 الشاعر عبدالله محمد السبب، يقول: «كيف نفهم حضور المكان في القصيدة، أيّاً كان جنسها الشعري (عمودية، تفعيلة، نثرية)؟، ومن هو القادر على النبش في القصيدة للبحث عن المكان واكتشاف مكانه في النص؟ الشاعر هو الشاعر، والمكان هو المكان، والمتلقي هو المتلقي، فأين يكمن خلل عدم معرفة وجود المكان في القصيدة. وفي القصيدة الإماراتية تحديداً؟ قصيدة النثر الإماراتية، مثلها في مثولها في المشهد الإبداعي مثل القصيدة العمودية والتفعيلية الإماراتية، ومثلها في تواجدها في المشهد مثل أي قصيدة نثرية عربية، لا تخلو من وجود مفردات معنية بمكونات البيئة ومختلف الكائنات ودلالات المكان والزمان، في مختلف صورهما وأشكالهما».

 قصيدة النثر الإماراتية لم تعد في أول السلم الشعري، يؤكد السبب، ويتابع: لم تعد قصيدة النثر تتلمس طريقها نحو المثول في المشهد الشعري، فهي حاضرة بقوة المنجز وقوة النقد المنصف وقوة اللغة والمواضيع المطروحة في النص، ماذا يعني أن يتحدث شاعر القصيدة النثرية الإماراتية في نصوصه الشعرية عن أماكن طفولته وشبابه، وعن أمكنة زارها في رحلاته وأسفاره المختلفة في أزمنة متعددة من رحلة حياته؟ ماذا يعني أن يشارك شاعر قصيدة النثر الإماراتية في مناسبات مجتمعية بما يتطلب منه استحضار أمكنة ومعالم إماراتية بطريقة شعرية لافتة؟ إذاً، من خلال ما أشرنا إليه من دلائل إبداعية تثبت قصيدة النثر الإماراتية أنها ابنة شرعية للشعر العربي، وأنها غير منفصلة عن الواقع وعن البيئة الإماراتية بمختلف مفرداتها وجوانبها، فلابد من القول إن على كل المختلفين مع شعراء قصيدة النثر الإماراتية، أن ينأوا بأفكارهم المشككة في جدوى وجودها، وأن يقتربوا أكثر منها ومن محتوياتها الفكرية للتأكد من التزامها بقضايا مجتمعها، وبأنها غير منفصلة عن البيئة الإماراتية، إذ لابد من البحث والتقصي بدقة نقدية وأمانة أدبية».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"